شعار قسم مدونات

المستقبل أهم من الماضي سؤالا وتنظيرا

blogs - people
علاقتنا كعرب بسؤال المستقبل أخذت طابع اللامبالاة، فالعربي يعتقد أن التفكير في المستقبل نوع من الكفر أو الشرك، فالمستقبل في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله..

هذا التأويل السطحي للنصوص الدينية تركنا لا نرسم لأنفسنا دراسات مستقبلية استشرافية، ولا ننخرط في الحركة الجيوستراتيجية العالمية، لأن سؤال المصير سؤال صميمي، والفلسفة من حيث هي سؤال قبل أن تكون جوابا تفرض علينا صياغة خاصة بالمستقبل، يقول أحمد حامد الدبابسة في تقديمه لكتاب هاري ياغر: " ومن المفارقات أن قادتنا يبدون، وعلى نحو متزايد، غير مؤهلين للتفكير الاستراتيجي، في وقت نحن فيه أمسّ الحاجة إليه، ويبدو أن " المناوشات الكلامية" حلت محل الجدل الوطني حول السياسات والاستراتيجية.

يسعى التخطيط إلى خلق طمأنينة من خلال تحليل جميع المتغيرات ذات الصلة الموجودة في البيئة المحيطة، وتحديد علاقات السبب والنتيجة بين هذه المتغيرات.

وأصبح المأزق شديد الوضوح إلى درجة يبدو معها أنه ليس هناك مفر من الإخفاق الشّامل في عمليات صياغة السياسات والاستراتيجية، في كل مفاصل الحكومة وأجهزتها."

يفرض سؤال المصير والمستقبل التخطيط، لأن التخطيط هو نوع من الدفاع الاستباقي لمواجهة أي خطر ممكن، والأمة التي لا تستشعر الخطر محكوم عليها بالزوال والأفول. يقول ياغر في ضرورة التخطيط: " أما التخطيط فهو عملية منظمة لحل المشكلات، مع مخرجات محددة بوضوح، من حيث الغايات والطرائق والوسائل.

ويسعى التخطيط إلى خلق طمأنينة من خلال تحليل جميع المتغيرات ذات الصلة الموجودة في البيئة المحيطة، وتحديد علاقات السبب والنتيجة بين هذه المتغيرات، ومعالجة كل منها من خلال توضيح غايات الخطة وطرائقها ووسائلها، أو من خلال الإعلان عن العواقب والطوارئ المتعلقة بالخطة."

عندما نسلم بأهمية التخطيط نكون وضعنا أنفسنا أمام أول سؤال مصيري مهم إنه سؤال الملائمة: " إن أسئلة " الملائمة والجدوى المقبولة" الموضحة آنفا أسئلة تدور فعلا حول صلاحية الاستراتيجية، ولكنها لا تكشف المخاطر. وإذا كان الجواب عن أي من الأسئلة الثلاثة "لا"، فإن الاستراتيجية تكون غير صالحة. ولكن الاستراتيجية ليست عالما بالأسود والأبيض، وقد يجد الخبير الاستراتيجي أن الجواب عن واحد أو أكثر من هذه الأسئلة غامض إلى حد ما."

شهدت الألفية الثالثة جملة من التغيرات الجيوستراتيجية في المنطقة العربية، فما نسميه بالربيع العربي لم يكن منتظرا لا من قبل الساسة ولا الشعوب، وهذا الأمر الطارئ أحدث جملة من التغيرات المفاجئة والمرعبة، فكثير من الدول العربية تراجعت مكانتها الإقليمية ولم تستطع مسايرة التغيرات العالمية والإقليمية، فحدث نوع من الانقلاب التاريخي في بنية المجتمعات العربية: " كيف، بالدقة والتفصيل، حدث هذا الانقلاب ولماذا ؟ ما هي العوامل الكامنة خلفه والضوابط المُحركة له؟ ثمة مجموعتان مترابطتان متداخلتان من الأسباب والمتغيرات، واحدة جعلت الخليج كبيرا بعد أن كان صغيرا، وواحدة جعلت السويس صغيرة بعد أن كانت كبيرة. "

يعلمنا الدرس الجيوستراتيجي أن التخطيط يضع جميع الممكنات ضمن خانة المحتمل، وعليه يجب أن يكون طرح السؤال ضمن دائرة المتغير لا الثبات، فالعدو لا يبقى عدوا وكذا الصديق: "فصحيح أن الدرس الذي يعلمه لنا تاريخ الصراعات البشرية والسّياسية هو أن أعداء الأمس هم أصدقاء الغد، وأن أصدقاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد، وأن التشكيلات السّياسية في العالم نمط متغير أبدا بالتدريج أو الفطرة، غير أن من الصحيح أيضا أن الدرس الأكبر والذي لا ينبغي قط أن ننساه هو أنه ليس هناك ما يمنع في نهاية المطاف من أي يكون كل أعداء الأمس أصدقاء الغد جميعا، وأن يصبح التشكيل السياسي الوحيد في العالم كله هو استراتيجية السلام لا الصراع وحلف البشرية لا حلف الفضول."

" أنت يا ابنتي معذورة في حيرتك، وفي التردد في طرح السؤال… فقد نشأت في بلاد الإجابات، الإجابات المعلبة التي اختزنت منذ مئات السنين، الإجابات الجاهزة لكل شيء، وعن كل شيء، فلا يبقى للناس إلا الإيمان بالإجابة، والكفر بالسؤال. الإجابة عندهم إيمان، والسؤال من عمل الشيطان! ثم تسود من بعد ذلك الأوهام، وتسود الأيام، وتتبدد الجرأة اللازمة والملازمة لروح السؤال."

حاول زكي نجيب محمود أن يلفت نظر العرب إلى أهمية أسئلة المستقبل وتحدياته، فكتب:" وإذن فلا مناص للكاتب وهو يصف روح العصر من نظرة ذاتية؟ قد يختلف عنه فيها كاتب آخر ينظر بمنظار آخر، وعندئذ لا يعني تعدد وجهات النظر إلا أن الحق متعدد الجوانب، تنظر إليه من هنا فإذا العصر يسوده العلم بنظرته الموضوعية، وتنظر إليه من هناك فإذا العصر يسوده العبث واللامعقول، أهو – يا ترى- عصر القوميات المستقلة، أم هو عصر التكتلات والأحلاف، وعصر المؤتمرات الدولية وعصر جمعية تضم أمما متحدة؟ هل يغلب على عصرنا – كما يبدو في نتاج الفكر والفن- رغبة في أن تكون الأولوية للجماعة على الفرد، أو تغلب عليه الرغبة في أن تكون الجماعة وسيلة لسعادة الفرد وتحقيق ذاته؟؟ بل أنت لا تدري إذا الناس اليوم في اهتماماتهم الفكرية أكثر انشغالا بتراث ماضيهم أم بإرسال البصر إلى بناء مستقبلهم؟"

إن المستقبل مستغلقٌ، والمصير مجهول، ولا مناص أن نبذل قصارى جهدنا في فتح المستغلق واكتشاف المجهول، وعليه، لابد أن تكون لنا الجرأة في طرح أسئلة المستقبل من أجل تخطيط ووضع كل الاحتمالات الممكنة لغد نعلم أنه سيتغير حتما.
– خلاصة السؤال: "بأية فلسفة نسير؟"

شخصيا أعتبر أن عظمة الفلسفة تكمن في صناعة السؤال لأن السؤال هو الذي يؤدي عند الوعي والفهم إلى تشكيل المفهوم.

نصل في الأخير إلى القول بأن ماهية الفلسفة ليست في فعل الكتابة أو التّدوين، بل في الفعل التوليدي للمفاهيم والأسئلة، فأغلب فلاسفة اليونان القدامى كانوا ينفرون من الكتابة كفعل تدويني ويتجهون نحو الفلسفة كتمثل وقول، فأفلاطون اختار المحاورة كأسلوب إبداعي، يحاول من خلاله أن يوجّه الفلسفة نحو القيم الفضلى من خلال حركة الأفكار وجدلها، فالمفاهيم تسافر ضمن فضاء توليديّ يجعل الأفكار تتداعى على ساحات الشعور والإدراك برفق وتدفّق، إن أفلاطون كان يرى في إبداع المفهوم أكبر انتصار للعقل الفلسفي على العقل السطحي، وأكبر غوص للوعي العميق من الوعي الزّائف في سراديب الذّات، وأكبر تجدد للإنسان ضمن مسلسل سؤال الذّات والكون.

ونحن نتفق مع كارل ياسبرس حين يقول: " لا يمثل في التاريخ إلا المفكرون الذين وجدوا فعلا. وينبغي أن يكون في وسعنا تحديد وجودهم كأناس حقيقيين في الزمان والمكان وأن نعثر عليهم بأقوالهم وفعالهم. ولا بد من أن نحذف صور ما قبل التاريخ الأسطورية صور العرفانيين والأنبياء مهما عظم شأنها في وعي الشعوب."

ونقصد بهؤلاء المفكرين أولئك الذي استطاعوا أن يجعل من السؤال أعظم سلاح لتنوير الناس وإرشادهم دون وصاية أو مَعلمة. وإذا كان جيل دولوز اعتبر عظمة الفلسفة في صناعة المفهوم فأنا شخصيا أعتبر أن عظمة الفلسفة تكمن في صناعة السؤال لأن السؤال هو الذي يؤدي عند الوعي والفهم إلى تشكيل المفهوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.