شعار قسم مدونات

دور الخصومة السياسية والفكرية في تقييم مؤتمر غروزني

Russian President Vladimir Putin (L) meets with Chechnya's leader Ramzan Kadyrov at the Kremlin in Moscow, Russia, August 25, 2016. Picture taken August 25, 2016. Sputnik/Kremlin/Mikhail Klimentyev/via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. EDITORIAL USE ONLY.

في مطلع القرن الرابع الهجري أطلق الإمام أبو الحسن الأشعري صرخته في وجه شيوخه من المعتزلة الذين تتلمذ عليهم لعقود وحمل على عاتقه مهمة الدفاع عن طريقة السلف الصالح في العقائد.

 

وبعد صولات وجولات ظهر على عباقرة المعتزلة وغير المعادلة الفكرية تماما، وانتشرت أفكاره وآراؤه في عموم العالم الإسلامي في الوقت الذي ظهر فيه الإمام أبو منصور الماتريدي، الذي سار على الطريقة نفسها مع اختلاف يسير في فروع العقائد، وتمخض عن مدرستيهما مذهبا الأشاعرة والماتريدية اللذان شكلا مذهب أهل السنة والجماعة.

 

ولقي المذهب قبولا تاما لدى علماء الإسلام ومفكريه، ولم يكن أحد يطلق هذا اللقلب على غير هاتين المدرستين اللتين انتظمتا العالم الإسلامي ومدارسه الكلامية والفقهية والتربوية.

 

التصوف سلوك يهدف إلى تحقيق الكمال في عبودية الخالق ولا يصح بأن يعد مذهبا مستقلا

وأما التصوف فهو سلوك يهدف إلى تحقيق الكمال في عبودية الخالق ولا يصح برأيي أن يعد مذهبا مستقلا بل هو علم كسائر العلوم الإسلامية التي حرصت جميع طوائف الإسلام على تلقيها وتلقينها للدارسين.

 

لم يكن لأهل السنة والجماعة مذهب ولا فكر غير هذا عبر قرون طويلة حتى ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية بمذهبه الذي عرف باسم الوهابية، والذي رأى أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة واختطف هذا المفهوم وساعدته عوامل سياسية كثيرة.

 

هذه الحقيقة التاريخية التي لا يجوز تجاهلها هي التي حاول مؤتمر العلماء في غروزني تقريرها بعد كل اللبس والخطأ الذي وقع فيها. ومع كل الضجيج الذي حصل لم أر من ناقش الحدث نقاشا موضوعيا وكان للخصومة السياسية والفكرية الدور الأكبر في تصاعد الشجب والإنكار على المؤتمر .

 

ويبدو هذا جليا في طبيعة الاعتراضات كاعتراضهم بأنه لم يتعرض للجرائم التي يرتكبها النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون والمليشيات الطائفية. ولو أن المؤتمر عقد لمناقشة أوضاع المسلمين لكان هذا الاستنكار سديدا ولكنه عقد لمناقشة موضوع معين وتحديد مفهوم كان لاختطافه وتغييره وإخلائه من مضمونه التاريخي دور كبير في صياغة واقعنا المأزوم.

 

وانتقده آخرون باعتبار المكان الذي أقيم فيه بجمهورية تتبع الاتحاد الروسي، وعليه فإنه لم يعقد إلا بإيعاز من الرئيس بوتين لأغراض سياسية مما حدا بالبعض إلى اتهام المشاركين في المؤتمر بالعمالة، وتنفيذ أجندات روسية وصولا إلى اتهامهم بالمشاركة في جميع الجرائم التي ترتكب في سوريا.

 

ولا أدري ما وجه هذا التلازم الغريب، وما لا أستطيع تقبله هو القطع بهذه التهمة من غير أن يمتلك أحد إثباتا، والانجرار وراء الأوهام والشكوك والوصول بها إلى مصاف القطعيات والاعتماد عليها في وصف جماعة العلماء غير قليلة بالخيانة والعمالة.

 

وقد أكد المشاركون على أن المؤتمر عقد بدعوة من علماء الشيشان وهي جمهورية إسلامية خالصة رئيسا وحكومة وشعبا، ولا يوجد أي مؤشر فيه على دور للمخابرات الروسية ولا حتى أجهزة الحكومة الشيشانية وهو ما صرح به الحبيب عمر بن حفيظ في أولى جلسات المؤتمر.

 

على أنه قد عقد في جمهورية الشيشان نفسها قبل عامين مؤتمر دولي لعلماء المسلمين تحت عنوان الإسلام دين السلام والمحبة، وعبر حينها العلامة يوسف القرضاوي عن مدى اعتزازه ومباركته له وللرئيس الشيشاني رمضان قاديروف الذي بالغ في الثناء عليه وتمنى لو أنه كان بمقدوره الحضور والمشاركة.

 

وبالطبع فإن ظروفا وأسبابا ما هي التي دعت علماء الشيشان إلى إقامة مثل هذا المؤتمر كان يجب الاطلاع عليها، وليس بالضرورة أن تكون هذه الأسباب مقنعة لدى السادة المعترضين، لكن مما لا شك فيه أنه يجب احترام الرؤية الشيشانية واحترم قناعة العلماء المشاركين وعدم محاولة فرض رؤية أو وجهة نظر مخالفة وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال.

 

وادعى آخرون أن المؤتمر يهدف إلى توجيه ضربة للمملكة العربية السعودية لأنه يقصي الوهابية من مصطلح أهل السنة والجماعة وهو المذهب الذي تتبناه السعودية، وهذا توصيف غير دقيق، إذ توجد في السعودية مذاهب مختلفة ويحترم البلد التعددية الفكرية ويقف منها على مسافة واحدة، فهو يرعى السلفيين كما يرعى الشيعة والمكارمة والمتصوفة وغيرهم، وهم منتشرون في عموم البلاد فالوهابية ليس مذهبا رسميا للدولة حتى نقول إن استهدافه يعني استهداف المملكة وإن كان حكام البلاد يحترمونه ويقدرونه.

 

الأزهر الشريف المشارك في مؤتمر العلماء بغروزني تجمعه بالمملكة العربية السعودية ومؤسساتها الدينية علاقات متينة

 هذا على فرض أن المؤتمر استهدف الوهابية مع أنه لم يخرج بأكثر من المفهوم التاريخي لهذا المصطلح الذي أجمع عليه علماء المسلمين، ولم يتعرض في مخرجاته للوهابية وتكاد النتيجة التي خرج بها تتطابق تماما مع ما قرره الإمام السفاريني في كتابه الأنوار البهية- وهو كتاب مشهور ومتداول بين الدارسين في المملكة وغيرها – الذي نص على أن المراد بأهل السنة هم المذاهب الأربعة المحدثون والصوفية والأشاعرة والماتريدية.

 

 كما أن الأزهر الشريف المشارك في غروزني تجمعه بالمملكة العربية السعودية ومؤسساتها الدينية علاقات متينة، وهو ما يبدد هذا الوهم بالإضافة إلى العلاقة المميزة بين السعودية وجمهورية مصر عموما.

 

وليس منطقيا أن يتوجع السلفيون من الإقصاء الذي اشتمل عليه البيان الختامي للمؤتمر لاعتبار أنه أخرجهم من مفهوم أهل السنة كما يتصورون، في الوقت الذي لا يقبلون فيه توصيف أي اتجاه آخر من التيارات الفكرية في العالم الإسلامي بأنها من أهل السنة وفي كثير من الأحيان يلقون بهم في الكفر غير مكترثين.

 

وأعود هنا لأؤكد على أن مؤتمر العلماء في غروزني عقد لإعادة ترسيخ مفهوم تاريخي نتج عن تغييره تكفير وتضليل جماهير الأمة سلفا وخلفا ولم يرشح عنه تغيير أي حقيقة علمية أو تاريخية.

 

ونحن ننادي الأزهر الشريف وغيره من المؤسسات الدينية العريقة في حضرموت والمغرب ودول الشام وتركيا وغيرها، نناديهم بالسعي إلى عقد مؤتمر مع هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لوضع النقاط على الحروف ورد جماح التكفير والتضليل الذي أغرق أمتنا في بحار من الدماء وأوقعها في متاهة الفرقة والضياع.
 

 والله نسأل أن يحفظ أمتنا ويقيها شر الفتنة والفرقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.