شعار قسم مدونات

الإعلام العربي: أنت حر في اختيار أسيادك

blogs - media
في الجزء الثاني من النظرية النقدية والإعلام العربي..
خمس سنوات من الثورة (http://goo.gl/VZTnVJ)، أواصل الحديث حول الإعلام العربي وكيفة تعاطيه مع الواقع الجديد الذي برز منذ ما يقارب من الست سنوات، وخير ما أستهل الحديث به ما قاله "هربرت ماركوزه" وهو (أنت حر في اختيار أسيادك) حيث جسد ماركوزه من خلال هذا الشعار رؤيته الرئيسية للسلطة الهائلة للتكنولوجيا وخاصة تكنولوجيا الاتصال والإعلام في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد".

الشعار ذاته حملته وسائل الإعلام العربية، حيث يمكن للمتابع لمسيرتها أنّها –أي وسائل الإعلام العربية- حاولت تطويع الجمهور من خلال التفاقم الهائل لسلطة الأنظمة في المجتمعات العربية وكان لتلك الوسائل دورها الهام في إنتاج نمط من العلاقات بين الفرد والمؤسسات التي تتحكم في الوجود الاجتماعي بشكل عام.

باتت اللذة الحقيقية لاستخدام هذه الأشياء ثانوية بالنسبة للحصول عليها، وأصبح هذا الاستهلاك هو هدفٌ بحدِّ ذاته وليس وسيلةً للوصول لشيءٍ أسمى أو هدفٍ أرقى

وبالعودة إلى ما يطرحه ماركيوز الذي قام بتأسيس نظريته النقدية من خلال رصد واستقصاء وسائل السيطرة والهيمنة التكنولوجية والثقافية داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تكنولوجيا، يرى أنّ "الأدب والفن والجنس يتم استيعابها في هذه المجتمعات داخل الموجة العاتية للاستهلاك والنزعة التجارية، الأمر الذي يحول الثقافة إلى غذاء استهلاكي يومي أحادى البعد"، وبقليل من البحث نرى أنّ وسائل الإعلام العربي ركزت فيما ركزت خلال أعوامها المنصرمة حقن المشاهد العربي بكل أصناف الثقافات الغربية الاستهلاكية ليتهجن مع مرور الزمن ويصبح الجمهور العربي من محيطه إلى خليجه نسخةً عن الآخر، يرى في الاستهلاك اللاعقلاني واللامنطقي لذّةً ما بعدها لذّة،.

وباتت اللذة الحقيقية لاستخدام هذه الأشياء ثانوية بالنسبة للحصول عليها، وأصبح هذا الاستهلاك هو هدفٌ بحدِّ ذاته وليس وسيلةً للوصول لشيءٍ أسمى أو هدفٍ أرقى، وفي ظلِّ هذا التحول الذي فرضته وسائل الإعلام تمّ تغييب الجمهور العربي عن مشاكله الأساسية بمختلف مجالاتها "ثقافية، اجتماعية، سياسية واقتصادية"، وهذا يفسره ماركوزه ذاته بقوله إنّ المجتمع المعاصر يتسم بالانغلاق والهيمنة على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث يُحول الإنسان فيه إلى إنسان ذو بعدٍ واحد؛ بمعنى أنه لا يُسمح له أبداً بالتطلع إلى التغيير، بحيث يندمج كُلياً في مجتمعه ويتكيف كُلياً مع ما هو قائم ولا يتطلع إلى ما وراء ذلك.

وبنظرة متعمقة نجد أنّ رواد النظرية النقدية وبعد ما شاهدوه من "انحطاط للقيم الفردية داخل المجتمع ومن انسحاب لحق الفرد في الاختلاف في إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقدي" عملوا على إعادة قراءة النص الفرويدي على ضوء تحولات المجتمع الصناعي متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية، وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب.

وإذا كانت الأيديولوجيات العربية التي تبنتها وسائل الإعلام في فترة سابقة تظهر بصورةٍ جليّة ما يريده الحاكم السياسي أو الداعم المالي بصورةٍ فجّة تدعو إلى النفور، نجد أنّ وسائل الإعلام هي ذاتها أتقنت فن اللعب بالإيديولوجيا وباتت أكثر قدرة على التخفي والذوبان داخل ما تعرضه للجمهور.

الأيديولوجيا أو "الوعي الزائف" الموجود حالياً لا يمكن مشاهدته أو قياسه أو التعرف عليه بسهولة، غير أنّ الأيديولوجيات التي كانت موجود إلى فترة أواسط التسعينيات كان يمكن ملاحظتها بسهولة حيث يصفها ثيودور أدورنو بـ : "إن تأمل النظام الستاليني يظهر أن الأيديولوجيا كانت وسيلة للاضطهاد".

وإذا حاولنا معرفة أسباب ممارسات أجهزة الإعلام العربية والخاصة على حدٍ سواء سنجد أنها هي ذاتها تقول أنّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، محرمةً على الباحثين التحيقيق بما ينبغي أن يكون، أو لماذا لم يكون، معلنةً وبكل جرأة أنّ الواقع ما هو كائن!!.

النظرية النقدية ما هي إلا رؤية نقدية للمجتمع الاستهلاكي في تطبيقاته العملية واليومية، وهو ما ابتعدت عنه وسائل الإعلام العربية وفضّلت التقوقع في قمقم تغريب الجمهور العربي

وإذا أردنا أن نختم ما بدأنا به نجد أنّ النظرية النقدية تجاوزت الوضعية؛ كما رفضت المثالية الألمانية، واقتربت أكثر من الماركسية؛ التي أولت جلّ اهتمامها للذات الإنسانية في تفاعلها مع محيطها.

وبالقدر ذاته فإنها ترتكز على المادية التاريخية، موليةً اهتمامها بالقيم والأخلاق، وبتفاعل الذات الإنسانية مع المجتمع بشرط أنّها مستقلة وغير خاضعة لحتميات أو جبريات موضوعية، بمعنى أنّ الإنسان صاحب الدور الكبر في صنع التاريخ، وتغيير المجتمع.

ومن هنا نجد أنّ النظرية النقدية ما هي إلا رؤية نقدية للمجتمع الاستهلاكي في تطبيقاته العملية واليومية، وهو ما ابتعدت عنه وسائل الإعلام العربية وفضّلت التقوقع في قمقم تغريب الجمهور العربي على مدى أعوام، وفي اللحظة التي رأت فيها أنّ الجمهور سبقها في فكره الثوري – دون وجود الأساس المعرفي- حاولت ومن دون جدوى اللحاق به، لتزيد من تغريبه؛ ولكن هذه المرّة جاء التغريب باتجاه مختلف لتصعد من النزعة الدينية أو العشائرية أو القومية، وفي الوقت ذاته نرى انقسام المجتمع إلى عدّة أقسام نتيجة تصرفات وسائل الإعلام العربية الارتجالية غير المحسوبة.

وبناءً على ما سبق؛ نجد أنّ النظرية النقدية هي التي تحقق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة، كما تبيّن أفكارها وخلاصتها أن المجتمع يعاني من ظلم وهيمنة مالكي وسائل الاعلام، وهو أبرز ما يعانيه الجمهور العربي إنّ كان من وسائل الإعلام الحكومية أو تلك الخاصة التي ترتبط برأس المال الذي يمولها أو بالحكومات التي تدعمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.