شعار قسم مدونات

غُلبت الروم.. سر ديني آخر

من مآثر الروم

أليس عجيبا أن تستفتح سورة قرآنية طويلة بالحديث عن قضية ليس لها مقدمات واضحة في القرآن، وليس لها حيثية مهمة في الدين؟!.. ذلك ما حدث في سورة الروم " الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6).

 

ترى ما أهمية أن يَغلب الروم أو يُغلبوا في بضع سنين بالنسبة لجماعة محدودة ومضطهدة آنذاك في مكة وقت نزول الآيات؟. ولماذا سيفرح المؤمنون بانتصار الروم يا ترى؟ ولم يغامر رب محمد بإعلان نبوءة مثل هذه قد لا تتحقق في هذا الزمن القصير (بضع سنين)، خاصة وأن الرومان آنذاك قد بلغوا من الضعف واليأس، ما يجعل التفكير في انتصارهم على الفرس خلال سنوات معدودة ضرباً من الخيال؟

 

تعد الآيات الأولى من سورة الروم من أخطر أسرار القرآن التاريخية بل وأخطر أسرار التاريخ الديني.

ليس لدى المفسرين التقليديين ما يشفي غليل الباحثين عن إجابة منطقية لهذه الأسئلة، ولم يكن يخطر ببال كاتب هذا المقال أن تكون هذه الآيات من أخطر أسرار القرآن التاريخية، حتى وقعت بين يديه دراسة – لا يتذكر عنوانها ولا اسم مؤلفها الآن – موضوعها بشارات الكتاب المقدس عن النبي محمد، هذه الدراسة قدمت الإجابة المقنعة للغز آيات الروم.

 

الآيات الماضية هي مثال آخر على جدل القرآن مع التاريخ الديني والكتب المقدسة التي سبقته، وبطريقته الخاصة يشير القرآن في هذه الآيات إلى واحدة من أخطر أسرار التاريخ الديني بالفعل. والكلمة المفتاحية لهذا النص هي عبارة "وعد الله"!.. هناك وعد قديم تشير إليه هذه الآيات فما ذاك الوعد يا ترى؟

 

تعود الحكاية إلى زمن الأسر البابلي لليهود (586 ق.م)، هناك حيث كان أحد أنبياء بني إسرائيل (دنيال) يعمل ساقياً وخادماً للملك البابلي نبوخذ نصر. وكان دنيال – وينسب إليه سفر دانيال في العهد القديم – قد أعطي موهبة تفسير الأحلام كجده النبي يوسف. وهي الموهبة التي ستحرره من الاضطهاد وترفعه مكانا عليا عند الملك، تماماً كما حدث مع يوسف في مصر.

 

 لكنها – ويا للمفارقة – الموهبة التي سيقع بسببها اليهود في أسر من نوع جديد هو أسر نبوءة تاريخية تحدد نبوءة موسى في سفر التثنية (18) التي تحدثنا عنها من قبل.

 

بدأت الحكاية عندما رأى الملك نبوخذ نصر في منامه رؤيا عجيبة؛ جمع لتفسيرها كهنة الدولة ومنجميها وسحرتها، وهددهم إن لم يتمكنوا من معرفتها أولا وتفسيرها ثانياً، فسيكون مصيرهم القتل تقطيعا، وتحويل بيوتهم إلى مزابل.

 

 وهنا تدخل دنيال لإنقاذ الموقف وتمكن من إخبار الملك بما رأى مع تفسيره، وهو ما أذهل الملك وجعله يسجد سجدة احترام له.

 

 قال دانيال للملك: السر الذي تسأل عنه أيها الملك لا يقدر الحكماء ولا السحرة ولا المنجمون أن يبينوه لك، لكن في السماء إلها يكشف الأسرار أراد أن يعلمك بما سيكون في قادم الأيام من خلال هذه الرؤيا، أنت أيها الملك رأيت في المنام تمثالا عظيما هائلا بهيا، كان واقفا أمامك وكان منظره رهيباً، وكان رأسه من ذهب خالص، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضهما من حديد والبعض الآخر من خزف.

 

فسر دانيال للملك نبوخذ نصر رؤيته العجيبة في منامه فأنقذ كهنة الدولة ومنجميها وسحرتها العذاب والتنكيل.

وأضاف دانيال، وبينما أنت تنظر إليه انقطع حجر من الجبل من دون أن تلمسه يد، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف وسحقهما، فانسحق الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا، وصارت كلها كتبن البيدر في الصيف، فحملتها الريح وما وجد لها أثر. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها.

 

ثم بدأ دنيال في تفسير الحلم قائلا للملك، إن التمثال يرمز لعدد من الدول تشكل تمثالا متصلا، الرأس الذهبي فيه هو مملكتك (بابل) أما الصدر والذراعان فيرمزان لمملكة أصغر من مملكتك تأتي من بعدك، ثم مملكة ثالثة سلاحها من نحاس تتسلط على كل الأرض، ثم مملكة رابعة يكون سلاحها صلبا كالحديد تحطم جميع تلك الممالك، ثم تنقسم هذه المملكة القوية إلى قسمين أحدهما ضعيف كالخزف، ويختلط ملوك تلك المملكة مع بعضهم بالزواج فلا يلتحمون، لأن الحديد لا يختلط بالخزف. وفي أيام هؤلاء الملوك – وهنا المفاجأة – يقيم الله مملكة لا تنتهي إلى الأبد، ويرمز إليها في الرؤيا بالحجر الذي أصبح جبلاً.

 

بالنسبة لبني إسرائيل فقد استوعبوا النبوءة استيعابا كاملا، ووضعوها في سياق النبوءات السابقة عن النبي المنتظر، وعرفوا أن دنيال يتحدث عن أمة المسيح الخاتم التي ستظهر على إثر المملكة الرابعة. بل التي ستكون سببا في إنهاء المملكة الرابعة.

 

ولم يكن الأمر يحتاج سوى لمعرفة الممالك التي ستظهر بعد بابل، وهي على التوالي: مملكة الفرس والميديين، ثم مملكة الإسكندر المقدوني، ثم مملكة الرومان.

 

وقد أصبح أمر هذه النبوءة مشتهرا في أوساط الكتابيين والعرب في القرن السابع الميلادي، لإدراكهم أن مملكة المسيح المنتظر (محمد) ستظهر في زمن ضعف الرومان، وأن هذه الأمة الناهضة – التي يسميها الكتاب المقدس مملكة الرب – هي التي ستضرب أقدام التمثال (مملكة الروم)، أي أن العلامة الأكيدة على كونهم الأمة المختارة من قبل الله هي قضاؤهم على الرومان في المنطقة العربية.

 

فلما انهزم الرومان على يد الفرس بدا وكأن النبوءة لا تشير إليهم، وهو ما جاءت آيات سورة الروم لنفيه، وتأكيد أن الروم سينتصرون على الفرس خلال سنوات قليلة، وهو ما يعني أن هزيمة الرومان ستكون بالفعل على أيديهم!. وعندئذ يفرحون بنصر الله لهم، وتحقيق وعده الذي وعد!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.