شعار قسم مدونات

الثقافة العربية.. سؤال المعنى في زمن اللامعنى؟

blog-مكتبات

يعاني العالم العربي من أزمة ثقافية، وأخرى ذات بعد اقتصادي وسياسي، وهذه الأزمات المتعاقبة على الجسد العربي، هي جزء من الإشكالية الكبرى المتجلية في طغيان اللامعنى في الثقافة والحضارة العربية المعاصرة.

اليوم اللامعنى يحتل عديدا من الأمكنة، فعيد الأضحى مثلا الآن فقد لمعانه، وفقد معه معانيه وتمتلاثه ذات البعدين الروحي والثقافي، بحيث أصبح مع مرور الوقت نشاطا عبثيا ونمطيا محصورا في أفكار لا ترقى بالنفس للبحث عن المعاني الروحانية، بل تسقطه في مستنقع اللامعنى الشكلي المادي.

الإبداع ممارسة للمعنى في الأصل، إلا أنه لم تعد للمعاني حضور فيه، وأصبح المبدعون متكلفون، كما تسربت للفنون التفاهة عن طريق اللامعنى

والفلسفة قبل هذا حاولت أن تبحث عن المعنى، بل وقل إن الفلسفة هي المعنى في حد ذاتها، فهي عبارة عن تأملات تحاول البحث عن المعنى في الوجود والمعرفة، في الآخر والغير، والبحث عن تمظهرات الحضارة ذات المعاني الخالدة، وليست الزائلة بزوال التكسب بتلك الحضارة المادية الشكلانية.

لتبسيط ما سبق يمكننا أن نضرب مثلا، بقيمة الألعاب المستعملة من طرف الأطفال بين الماضي والحاضر،بحيث أن الألعاب في فترات زمنية كانت تحمل معاني تكوين شخصية الطفل، فرغم بساطتها آنذاك، فإنها تحمل في جعبتها الكثير من الدلالات الثقافية والحضارية، مرتبطة بمفاهيم تدرس من قبل السوسيولوجيا كالحي والتراث والحكي الشعبي، وكثيرة هي أمثلة محددات هذه الألعاب، فأما ألعاب الحاضر فرغم تعقدها وتقدمها التكنولوجي إلا أنها تفقد المعنى، ولا تربطها بالطفل هوية الأرض والثقافة.

والحديث عن ضياع المعنى على مستوى عال، يقود بالتأكيد إلى دراسة فعل القراءة كنمط بشري ينمي الجانب العقلي فيه، فقد كان مرتبطا في بعض الأزمنة بالثقافة والفكر، والقراءة كانت وسيلة مهمة من أجل تغيير شيء ما، وصناعة الفكر كذلك وهذه أم المعاني، أما اليوم فأصبحت القراءة تنميطا للعقل وتشكيلا لللامعنى، من خلال ربطها بالتدريس النظامي المتعلق بكراريس وبرامج وزارية لا تسمن من جوع، وأصبحت القراءة مجالا للتكسب، ولا نعني به التكسب المادي، بل نطلق مفهوم التكسب على الإستفادة غير المباشرة، أي ربط القراءة بالوظيفة والعمل الناتج عن الشهادة المدرسية، وهي طريقة مظهرية وتملكية.

يحيل فقدان المعنى في القراءة، إلى مجال آخر لصيق به، وهو الإبداع بمختلف صوره وتعدد فروعه، إن الإبداع ممارسة للمعنى في الأصل، إلا أنه لم تعد للمعاني حضور فيه، وأصبح المبدعون متكلفون في إظهار إبداعاتهم، كما تسربت للفنون التفاهة عن طريق اللامعنى.

والمعنى في الثقافة العربية، سؤال يستبد بالعقل، حتى أن صاحبه لا يخلص إلى نتائج جيدة، بل يفقد اللامعنى جراء بحثه وطرحه لهذا السؤال، والبحث يوصل الى مظاهر اللامعنى التي تحضر بقوة في المشهد الثقافي العربي.

وإذا بحث المرء سيجد أدلة على هذا القول بتفشي اللامعنى في مناحي الحياة وخصوصا الثقافة العربية، وتمرير البصر في شوارع رباط المغرب، سيوصل إلى بناية ثقافية تقع ما بين بنايتين للسلطة المحلية، ثم يستنتج معه أن المغرب ما زال لم يدخل عهد سلطة المعرفة، واذا تم الدخول لبنايتها التي تحكي زمنا معرفيا قد ولى عهده، يكتشف معها انه لم يبقى إلا زمن اللامعنى حاضرا بتمثلات الصور والثقافة الفارغة.

في داخل قاعة المطالبة لا يوجد أحد سوى بعض الشباب، الذين يعدون على رأس الأصابع، إذا تم الإقتراب من الكتب المصطفة تنطلق منهم رائحة القدم فقد تآكلت صفحاتها بفعل الزمن، والغبار ينتشر فوق الرفوف، كتب لم تتداول منذ زمن بعيد، وفي تلك اللحظة يتيقن المرء بأن المغرب والعالم العربي لا يحب إلا الثقافة الظاهرية، ثقافة اللاثقافة، وذا ما تم مقارنة هذه البناية مع مكتبة حديثة قريبة منها تدعى أنها مكتبة رسمية، أكثر تقدما تقنيا ومساحة وجمالا، بكنه ظاهري فقط، بل إن البناية الأولى أكثر سموا وتحمل عمق الزمن والمعاني الثقافية، أما الثانية فتحمل في طياتها الوهن والركوض العميق.

اللامعنى إذن مرتبط  بمفهومي التفاهة والركوض، الإحساس باللامعنى مقرون بالدخول في عالم تافه راكض فكريا وثقافيا، وهذين المفهومين يتحكم فيهما اسلوب التحكم والتملك الشكلي الفارغ من المضمون.

الطالب الكينوني يتعامل مع المحاضرة بطريقة أكثر عمقا، فيطورها ويبحث فيها عن كثير من الإشكاليات ذات المعاني المتعددة

ولعل أبرز من عقد المقارنة بين أسلوبين يسودان في العالم، هو عالم النفس الأميركي إريك فروم الذي ميز بين أسلوب الكينونة الجوهري وأسلوب التملك المظهري -في كتاب له بعنوان: الإنسان بين الجوهر والمظهر، عالم المعرفة، عدد 140، غشت 1989-، وهذا التمييز يدخل في صلب التمييز بين المعنى وهو الجوهري الكينوني ذلك الأسلوب الذي ينفذ إلى صلب العمل المنتج، أما اللامعنى فهو قرين بالتملك الذي يكتفي بالمظاهر.

لقد حاول أريك فروم أن يقتني بعناية كافية تجارب ومقارنات واقعية لفهم هذين الأسلوبين، فقد قام بمقارنة بين الطالب الذي يتعامل مع المحاضرة بطريقة تملكية لا تهتم إلا بمجال ما سيدونه في المحاضرة ويحفظه عن ظهر قلب ويحرص على أن لا تضيع أوراق المحاضرة دون أن ينفذ إليها في داخلها بحثا عن المعنى فيجلس في ضفاف اللامعنى، أما الطالب الكينوني فيتعامل مع المحاضرة بطريقة أكثر عمقا، فيطورها ويبحث فيها عن كثير من الإشكاليات ذات المعاني المتعددة.

إذا البحث عن المعنى يقود في الأخير إلى مقارنة بين طريقتين يدخلان في الجانب النفسي هما التملك والكينونة، فأما اتباع التملك دون الكينونة فهو غباء واضح، يصنع ثقافة بلامعنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.