شعار قسم مدونات

الزيني بركات

blogs - gamal

لم أسمع برواية "الزيني بركات" كالعديد منكم من الذين استغربوا عنوان التدوينة ودفعهم الفضول لقراءتها، وكتعريف عام عن الرواية فهي من كتابة الأديب المصري جمال الغيطاني، وتدور أحداثها في الفترة التي سبقت السيطرة العثمانية على القاهرة بعد معركة مرج دابق، تروى بعض أحداثها كمُشاهدات للرحالة الإيطالي "فياسكونتي جانتي" الذي يُسجّل أحوال القاهرة وأهلها آنذاك، ويُسلط الضوء تحديداً على شخصية الزيني بركات الذي يعيّنه السلطان والياً على حسبة القاهرة، فيستلم أعماله بكثير من الأمانة والصدق ويصطدم مع الفاسدين في الدولة إلى أن تأخذ الأحداث مجرى آخر يفاجئ القارئ ويُدهشه.
 

رواية "الزيني بركات" هي شكل من أشكال البحث التاريخي المحكي على شكل قصة، لا تُعطى فيها الأزمنة والأمكنة والحقائق أهمية كالتي تعطى للإنسان الذي عاش تلك الفترة من التاريخ

جمال الغيطاني شخصية مثيرة للفضول، خاصة فيما يتعلق بتعلّقه الشديد بنجيب محفوظ وعلاقتهما الوطيدة التي لا يكف الغيطاني عن التأكيد عليها وإثباتها ونفي أي شبهة حولها، أستطيع أن أرى العلاقة بين لجوء النجيب للرمزية في حديثه عن الواقعية الاجتماعية للشعب المصري وبين اختيار الغيطاني للرواية التاريخية أيضاُ ليعالج واقعه، كلاهما كان يخاف على نفسه وكان يحرص على المحافظة على خط رجعة دائم مع البوليس وأجهزة الدولة، وهذا بالطبع لا يُمتدحان عليه ولكن سيكون من الإجحاف تأنيبهما والتنظير عليهما.
 

رواية الزيني بركات تُبرهن على الكثير من الوعي التاريخي لدى كاتبها، فهو قد انتقى فترة مُحددة من تاريخ المماليك في مصر، وأنهى الرواية مع السيطرة العثمانية على القاهرة، كما وقد استند إلى تاريخ ابن إياس في الحديث عن شخصية الزيني بركات الذي يتولى حسبة القاهرة فيكون ظاهر أعماله خيراً أما باطنها فيعج بالفساد والطرق الملتوية في التعامل مع مشاكل الشعب.
 

وقد حاولت الربط بين شخصية الزيني بركات وبين جمال عبد الناصر إلا أنني لم أفلح، ليس بسبب عدم تشابههما إنما لنفي الغيطاني ذلك بذات نفسه وتأكيده دائماً على تقديره لشخصية الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنني سأظل أؤكد أن هنالك تشابهاً عظيماً، ولربما لم يعِ الكاتب أنه يعبر عن خيبته في هزيمة حزيران وفي إستراتيجيات وتصريحات عبد الناصر من خلال شخصية الزيني بركات، البطل الشعبي والإمام الصادق الذي اعتنقته الجماهير وأحبته ودعت المنابر له – وهو أمر نادر الحدوث لغير سلطان ذلك العصر- والذي تبين لاحقاً أنه لا يقل سوءاً والتواءً عن علي بن أبي الجود والي حسبة القاهرة سابقاً.
 

الشخصية الرئيسية الثانية هي شخصية كبير البصاصين الشهاب زكريا بن راضي والذي أفردَ له الغيطاني صفحات تفنن فيها في رسم إستراتيجيات وطرق التلصص على الشعب والأمراء وحتى على السلطان نفسه، مما جعلني أستحضر شخصية صلاح نصر، مدير المخابرات المصرية في فترة الستينيات والذي حوكم لاحقاً بتهمة انحراف جهاز المخابرات لارتكابه العديد من الفظائع والانتهاكات ضد المساجين والمحكومين، وهنا أيضاً يظهر تأثر الغيطاني بمحفوظ، حيث عمد الأخير للإشارة إلى شخصية صلاح نصر في روايته السياسية الشهيرة "الكرنك".
 

"الزيني بركات" تُبرهن على قدرة الأديب على محاكاة الواقع ليس فقط بشخوص وأحداث مُتخيّلة، إنما بوقائع تاريخية حقيقية وشخصيات

رواية "الزيني بركات" هي شكل من أشكال البحث التاريخي المحكي على شكل قصة، لا تُعطى فيها الأزمنة والأمكنة والحقائق أهمية كالتي تعطى للإنسان الذي عاش تلك الفترة من التاريخ، وهنا يبرز دور الأدب في السرد التاريخي، ففي هذه الرواية مثلاً عشنا مع الشعب المصري أيام المماليك، بمشاكله وهمومه وقناعاته الساذجة أحياناً، عشنا كذلك مع مُريديه ودراويشه المتمثلين في شخصية سعيد الجهيني والشيخ أبو السعود، سعيد الذي يتربى على الحق والعدل ويظل دائم التنقيب خلف الفاسدين حتى يقع في شباكهم ويخرج من أقبيتهم هاتفاً :آه، أعطبوني وهدّموا حصوني.
 

والمقارنة التي تفرض نفسها على القارئ بين شخصية الشيخ أبو السعود، صاحب الكرامات والشجاع الأبيّ لآخر رمق، والشيخ ريحان – الذي يقع سعيد في غرام ابنته سماح- الذي يتضح لنا تاريخه الشخصي المليء بالكذب والتخيلات التي لا تنتجها إلا مُخيلة وصولي مُتسلّق، تدفعنا هذه الفروقات للتأمل بما كان الغيطاني يرنو إليه حول حالة رجال الدين في فترة الستينيات، بين الأزهر والجماعات الإسلامية التي كان لها الدور الرئيسي في كثير من المُعتركات في تلك الفترة.

تجربة الغيطاني في "الزيني بركات" تُبرهن على قدرة الأديب على محاكاة الواقع ليس فقط بشخوص وأحداث مُتخيّلة، إنما بوقائع تاريخية حقيقية وشخصيات كان لها الأثر والذكر في كتب التاريخ، فيكون وقع الحكاية على القارئ أكثر واقعية وأكثر اتصالاً وقرباً ومدعاة عظيمة لإطلاق المُخيّلة حول ما يمكن للتاريخ أن يرويه في الحاضر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.