شعار قسم مدونات

مذكرة رقم اثنان للاجئ سوري

blog لاجئ سوري

كتبتُ في السابق عن رحلتي في العالم الآخر، عالم اللجوء، أوكما صرتُ أسميه، دارُ اللجوء، كما صنف المسلمون العالم إلى دارين: دارُ إسلام ودارُ حرب، هكذا إنقسم العالمُ في نظري إلى دارين: دارُ وطن ودارُ لجوء.

تكلمتُ عن الخروج من الوطن في ظروف استثنائية، الخروج غير المقترن بموعد للعودة، الموعد الذي قد لا يأتي أبدًا والذي قد يأتي في أية لحظة، تكلمتُ في السابق عن الصدمة الأولى التي تلقيتها في بداية مشواري كلاجئ، عن مجموعة التغيرات التي طرأت علي والتي أثرت على وعيي وصقلتهُ حسب مزاجها بما فرضتهُ قوتها، تكلمتُ عن المصاعب والهموم والآلام بوجهٍ خاص، وكيف سيعيش الإنسان عندما يُقطع عنه ذلك الحبل السُري الذي يُغذي روحهُ ويضمن له استمرارية العطاء في زمن تقلصت فيه آمالهُ ووصلت للتراقي وتكاد تموت أبداً. 

تكلمتُ عن تلك الولادة العسيرة، بمعنى أنكَ وُلدتَ في الوطن ولادًة طبيعية وعشتَ حياتكَ بشكل عادي، حلمت، حزنت، فرحت، بكيت، لعبت، وفعلت كل شيء داخل أسوار هذا الوطن التي كانت تبدومنيعةً عليك، بحيث تمنعك من الخروج حتى لومتسللًا، وليس القصد أن الوطن سجنٌ كبير.

بحيث يحتجز بداخله أبناؤهُ لكنه حضنٌ دافئ على الأقل في نظرةْ مثالية له، ولكن ثمة من يقول بأنه كان سجنًا كبيرًا، عندما عندما حولته الدكتاتورية إلى مكان غاب فيه القانون وذُبح فيه الأحرار وإغتيلت فيه العدالة وحُنطت فيه إنسانيتنا بحيث صرنا مومياءات جف ماؤها وفيها بعض الملح الذي يحفظها من التحلل في زمن مليءٍ بالدود . ولكن بعد كل هذا العمر الذي مر على ولادتك الطبيعية في الوطن، كان عليك أن تولد من خاصرة .
 

نعم، لقد تحول الرحمُ الدافئ إلى خاصرة، وثمة سكينٌ ما تغلغلت فيها لُتخرجك منه باحثًا عن حياة جديدة، وها أنت قد خرجت ويغمرك الشعور بالأمان، بعيداً عن القذائف والبراميل والصواريخ التي تفتك بمن بقي في قلب تلك الخاصرة الجريحة، ولكن هل أنت آمنٌ حقًا؟ لا أظن.
 

أنت أيها اللاجئ لن تستطيع أن تكتسب هوية البلد الذي منحك اللجوء، مهما حاولت أن تنسجم مع المجتمع وتتناغم سلوكًا مع عاداته وتقاليده.

إذًا وُلدتَ من جديد ومُنحت مسمى لاجئ، أنت لاجئٌ حقًا، صفةٌ منقوشةٌ على كل أوراقك الثبوتية، باستثناء بطاقة هويتك الوطنية المكسورة التي تهربت من تسليمها لدائرة الهجرة . 

تكلمتُ عن كل هذه الأحداث الجسام التي حدثت معي ومع ملايينٍ مثلي، أجل ملايين، فنحنُ الذين كسرنا الرقم القياسي على مستوى المآساة.

أما وقد مر زمنٌ ليس بالقصير وقد بدأنا ننسجم تدريجيًا مع الحالة الجديدة، صار لزامًا علينا جميعًا أن نُحول اللجوء إلى حالة إيجابية، ولنفترض أن اللجوء كان صخرًة خام ومع مرور الزمن علينا أن ننحت هذه الصخرة ونحولها لأشكال جديدة تعكس قدرتنا على الإبداع، قدرتنا على العطاء، وقدرتنا على أن نحيا الحياة متى إستطعنا إليها سبيلا.

سأتكلم عن تجربتي بشكلٍ خاص، كوني جزء من آلاف السوريين الذي طلبوا اللجوء في الغرب، حيث يظهر الإختلاف جليًا، في منظومة القيم والأفكار والثقافة والعادات والتقاليد، وهنا تبرز أهمية قدرتنا على إكتساب ما هوإيجابي وترك ما هوسلبي، فالفرصة متاحةٌ الآن لتنفس هواء الحرية ولوفي مكان بعيد، الفرصة متاحة الآن لنجني بعض ثمار وعينا الجديد بالعالم، إذ أننا أصبحنا جزءًا، ولومؤقتًا، من عالم يسوده القانون والمساواة والعدالة الإجتماعية، تلك المنظومة التي افتقدناها طيلة الحياة التي عشناها في الوطن.

هناك مهمةٌ كبيرة علينا التكلف بأعبائها، وهي أن نحاول بناء ما تهدم فينا. باختصار هذه مجتمعات تعيش على القيم، في الوقت الذي تعيش فيه مجتمعاتنا حالة إنحسار قيمي، لا أقول أن الغرب يمتلك قيمًا مثالية بالمطلق ولكنها إذا ما طُبقت بِفضيلة فإنها ستقترب من المثالية، وهنا علينا أن نعيد بناء ذواتنا باستلهام ما ينفعنا من قيم العدالة والحرية، لكي نحاول تطبيقها وغرسها في أنفسنا وبالتالي سنتزود بزوادة ستساهم في بناء وطن جديد.
 

بالعودة للحديث عن الملاحظات التي رصدتها خلال السنوات الماضية، هنا علي أن أوضح عدة نقاط جوهرية إستطعت أن أخرج بها كنتائج أولية لإختبار عسير.

أولًا: أنت أيها اللاجئ لن تستطيع أن تكتسب هوية البلد الذي منحك اللجوء، مهما حاولت أن تنسجم مع المجتمع وتتناغم سلوكًا مع عاداته وتقاليده، فحتى لوتكلمت لغة فولتير وإكتسبت ثقافة جان جاك روسوفي فرنسا فلن تُصبح فرنسيًا بالمعنى الهوياتي، ولوبذلت جهدًا عظيمًا لتتكلم لغة غوته وتشبعت بثقافة نيتشه فلن تُصبح ألمانيًا.

الهوية لا تُكتسب بهذا الشكل، إنها مزيجٌ من عدة عناصر يشكل التاريخ عنصرًا بارزًا فيها، ولا أنكر بأن الأطفال قد يكتسبون الهوية، فهم من سيمثل الجيل الثاني من اللاجئين، وأقول هذا لأني لاحظتُ أن الكثيرين يحاولون جاهدين أن ينسجموا مع المجتمعات الغربية على نحوخاطئ.
 

معظمنا يحيا صراعًا، وربما صراعات بين البقاء في وطنٍ بديل وبين العودة غير المقترنة بموعد، قد لا يأتي وقد يأتي غدًا.

ثانيًا: الجنسية ليست هدية، فمن كان يظن أن الجنسية هدية ستمنحها له دولة اللجوء إكتشف لاحقًا أن عليه أن يتجاوز مراحل بالغة الصعوبة حتى ينال شرف الحصول على الجنسية الحلم، فاللغة والعمل والضرائب والسجل الأمني النظيف جدًا، والخالي من شبهة الإرهاب، هي مقومات قد تمنحك الجنسية ولكن تذكر، الجنسية لا الهوية.

ثالثًا: بعد سلسلة الهجمات التي اجتاحت أوروبا مؤخرًا، إحرص على أن تسلك سلوكًا يعكس حقيقة أنك ضحيةً للإرهاب، وأن تدافع بضراوة عن الإنسانية، لا بأس بذلك مع أن لدى الغرب صورة شبه مكتملة عنا وقناعات شبه ناجزة لكن لا بأس.
 

رابعًا: أنت غريب، وفي مجتمع مادي، وهذا سيجعلك معزولًا وعليك أن تكسر هذه العُزلة بشيءٍ من الإبداع .

خامسًا: معظمنا يحيا صراعًا، وربما صراعات بين البقاء في وطنٍ بديل وبين العودة غير المقترنة بموعد، الموعد الذي قد لا يأتي والذي قد يأتي غدًا، وهذا يتوقف على العودة الكبرى، أي عودة الوطن معافىً سليم .

يتبع في مذكرة لاحقة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.