شعار قسم مدونات

تمهَّل أيُّها الزّمان

BLOGS - حزن

تَحتفظُ ببضعةِ كتبٍ له رقَّت أوراقُها، وتغيّرت ألوانها، تنثُر الورود كي تستذكر رائحته. لم يترك لها سوى صورةٍ واحدة كي لا تنسى ملامحه. نسختها عشرَ نسخٍ، ووضعت واحدة في كلّ زاوية.  تقول: يُخيل إليّ دائما أنه يزورني كلَّ مساء، يضع يديه على جبيني ويتفقدني، كتبتُ له كلّ رسائل الحب، وأخفيتها تحتَ وسادتي علَّه يقرؤها، كلُّ ذاك الكلام الذي لم أجرُء على البوح بمكنوناته، كتبته له.

تصرخ بحُرقة: لماذا لم أخبره أني أحببتُه أكثرَ بكثير مما يظُنّ أني أفعل، لماذا كلما أردتُ أن أقول له "أحبك" شعرتُ وكأنَّ الكلمة منهكة وضعيفة، فتبدوا أنها خمَلت وحطّت على لساني من غيرِ أن أبوحَ بها.  أسألُها عن حالها الآنَ، بعد كل هذا الفراق الذي أضنى مُهلكاً جسدَها، لتبدوَ جسداً بلا روح، أتخرجُ أرواحُنا مع مَن أحببنا، ونصبحُ كمن يحاولُ انتشالَ الحياةِ من اللاشيء. تجيبُني ببرود: خِفتُ الوحدة، خفتُ مراراً من الألم، وجاء يومٌ بكَيت فيه حتى شاركَ الدمعُ الريقَ في مَجراه، وقيّدتُ خوفي إيماناً بقدري، وتذكّرتُ أن حقّاً علي نفسي، وتتبعتُ نورَ الله، وأسلمتُ نفسي وجوارحي لله ربي.
 

عندَما يعود العالمُ إلى الوراء، يصبحُ كلُّ شيء ممكناً، لكن كلما تقدمتِ اللَّحَظات والأيامُ والسّنون، كثيرٌ من الأشياء تصبح بعيدةً، وليست بمتناولِ الأيدي أو النسيان.

نحن لا ننسى لكنّنا نحاولُ التحرّر من الأشياء، من الأشخاصِ، من الأماكِن، التحرّرِ من كلِّ ما مضى، كي نتحرَّر من آلامنا. لو كلُّ الذين خسِرناهم في الحياة عادُوا لدقائقَ لمَا غفِلنا لحظةً عن توديعِهم بحبٍّ وشوقٍ بملءِ إرادتِنا، لو أنّنا تركنا مَن أحبَّنا يُشاركنَا الحياةَ والروحَ في داخلنا لما بكينا الليلَ اشتياقاً لدقائقَ تجمعُنا بهم، أو حضنٍ يصْحَبُنا بفيضِ حنانٍ غامر. لكننا تُهنا بكلامٍ غير منطوق، نحادثُه معَ أنفُسنا مِراراً ومِراراً ونخفيه في قلوبِنا.

تقول أخرى: هدأَت في بيتنا أنفاسُ العابرين بعد أن كانَتِ الضّحكَات تعمِّرُ الأرجاءَ لسنينَ، كانت أمي تعجنُ العجينَ، وتدُق على جبينها فرحةً للناظرين، كانت رائحةُ البيتِ سكراً وطحيناً، كان الشارعُ رَحباً وشجرُ الصنوبرِ على الرّصيف رصيناً.  تكمل حديثها: لو أننا تحادَثنا ما تاهَت أقدارُنا، لارتاحَت ضمائِرُنا، لو أننا أجمعنَا جميعاً أنّ المحبةَ تبدأُ بكلمة، وأطلقناهَا في الريح لما تشتَّتْنا وتعاركنا وتقاتلنا ولمَا حزنا، لو أننا أطلقنَا العَنانَ لمكنوناتِ مشاعرِنا ما عرَفنا طعمَ نُكران الجميل، وما تفارقَت طرائقُنا، ولما جمَدت أفئدتُنا. 

تقول ثالثة: لم أكُن أتساءل يوماً، كم منَ الوقت بوسعِ الحياة أن تبقِيَنا معاً؟! كانت رائحةُ الخبز تعبقُ في المكان، خبزِ الطابون الذي لم تستطِع متغيِّراتُ الحياة أن تثنيَها عن ممارسةِ طقوسِ عَجنِه وخَبزه في مطبخها الصغير الذي يتوسّط البيت، ويتوسّط مطبخَها مكتبي الذي جلستُ فيه ليلَ نهار، لا أذكُر إن كنتُ قد أخبرتها يوماً كم أحببتُها.. لو أنها تَعودُ لدقائقَ لأخبرَها كم أصبحَ المكانُ مُوحشاً، بلا لون أو ورائحة..  نظرتُ إليها بطرفِ عيني وهي تتحدّثُ بلا توقُّف، كانت ترتجِف وتختنِق بدموعِها. 
 

عندَما يعود العالمُ إلى الوراء، يصبحُ كلُّ شيء ممكناً، لكن كلما تقدمتِ اللَّحَظات والأيامُ والسّنون، كثيرٌ من الأشياء تصبح بعيدةً، وليست بمتناولِ الأيدي أو النسيان. لوهلة انظُرْ حولَك، لوهلةٍ فقط، قدِّر ما تملِكه من أشخاص وما تحملُه من أشياء، لو أننا نُقدر ونرضى بما نملك لاكتسَتِ الأشياءُ معنىً جديداً، معنىً أكثرَ جمالاً.. بل أكثرَ بكثير.
 

تمهَّل أيُّها الزّمانُ وأنت تسرِق منّا السنينَ، تمهّل قبل أن تقطَعَ بالدراسة والعمل والزواج والحرب والموت سُبُلَنا فيغدو كُلٌّ منا في سبيل تمهل وأنت تُغلق باب البيتِ، وتطفئُ الأنوارَ، وتغلقُ الشبابيكَ، وتعلق الأكوابَ، وترمي بأثاث البيتِ، وتزيلُ رائحةَ الماضي الجميل، تمهَّل وأنتَ تَقلعُ الأشجارَ عن بابِ البيت، وتخترِق الصناديقَ، تمهّل وأنت تشُقّ طريقَك وتمشي بنا سريعاً سريعاً.. تمهَّل أيُّها الزّمان..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.