شعار قسم مدونات

لأنها رغبتي

blogs - human
أُقدم أم أُحجم؟ أقول لا أم أَبَوؤهم بنعم؟ بين "لائي" و"نعمي" أمور غفيرة على المحك، هي أشياء على حافة التغير، بين "لا" و"نعم" هدم وبناء وبناء وهدم، بين هاتين الكلمتين فراغ ليس ككل الفراغات، إذ أنه فراغ مملوء بالعذاب، مشحون بالجحيم، مسكون بالهوس، ومهما اجتهد المحيط في تلميع الفكرة وإضفاء لغات التبرج عليها فلن يفلح أبدا في رسم لوحة الخداع الزائفة، لعبة الطلاء المغرية لعبة ساذجة عفى عليها الزمن فهي رسوم وأطلال قد بليت بفعل من تعرية الإدراك، مدرك أنا لكل ما يترتب عن أخذ هذا القرار، ولولا إدراكي اللعين هذا لم أصطلِ بنيران من أسياخ الحيرة التي لا متعة لها إلا في شي روحي على سفود النار الهادئة.

إن القول الفصل لا محالة عائد أدراجه في آخر المطاف إليَّ، ومحاولات استئصال شأفة القرار الأصوب مردها لشخصي، واحتمال الوقوع في مغبة القرار الأخرق كذلك من نصيبي، وإنه لعمرك موقف صعب في وضعي الراهن، أقدم أم أحجم؟! هذا السؤال أضحى كمطرقة لا تنفك تضرب جمجمتي في كل وقت وحين، كابوس انتقل من مرحلة قض مجضع النوم إلى قض مضجع اليقظة، أخال أني قد أُصبت بخرف جنوني مبكر، أعصابي تترنح على حافة من موسيقى التلف، أظن أن وسواسا قد حاقت بوادره بي، فهو لا ريب قاتلي.

أُقدم أم أحجم؟! هل آخذ بزمام الشجعان أم أكتفي بكهوف الجبناء؟ أأختار البندقية أم أستكين إلى مرابد الذل؟ أأتجاسر على قسوة المنفردة أم أهفو إلى مهاجع الأنس؟

آه منك يا أبي، هذا ما جنيته عليَّ ولم أجن على أحد، أم تُراني قد فعلت؟! ولنفترض أنني فعلت! فما الذي اجترحته ليكون عقابي على هذا النحو؟ أخبرني -خلاك ذم- بالجرم الذي أودى بك أن توردني هذا المورد من صنوف الآهات، أم أن إخفاء الجرم هو وجه آخر للعقاب؟! أم لعلك تنتظر فرصة أخرى في مقام آخر لتكشف عن خطيئتي إمعانا في العقاب من جديد؟! تبا إنه الوساوس من جديد! إنه الداء العضال، إنها آفة الدهر قد اكتنفتني فما هي بتاركتي إلا على آلة حدباء محمولا، وإلا كيف يعقل أن يجرني عقل حصيف إلى هذا القبيل من تراجيدية التفكير؟ وإلا كيف يعقل أن ينساق أب لعقاب ولد له بسبب جرم يخفيه عنه إمعانا في التعذيب؟! والواقع أنه ما عقاب هناك ولا تعذيب، إذ أنه مجرد اقتراح ككل اقتراحات الدنيا:
"ما رأيك أن تترك المدرسة لتلتحق بمدرسة أخرى تحفظ فيها قرآن الله"
والمفترض أن يكون الرد ب:
أفعل يا أبي ما دامت هذه رغبتك!
أو: لا يا أبي؛ لأن هذه ليست رغبتي!

فلماذا إذن كل هذه السريالية في التعاطي مع الاقتراحات؟! لا شك أنني وقعت ضحية في فخ التضخم، فجعلت من النظرية فلسفة قائمة بذاتها، ومن القطرة طوفانا، ومن الكتيبة سوادا لا يشق له غبار!

أُقدم أم أحجم؟! هل آخذ بزمام الشجعان أم أكتفي بكهوف الجبناء؟ أأختار البندقية أم أستكين إلى مرابد الذل؟ أأتجاسر على قسوة المنفردة أم أهفو إلى مهاجع الأنس؟ ترى هل ستفزعني صفارة الإنذار أم ستلهبني حماسا للمواجهة؟ أأكون ذاك الفارس المقدام في نفس عنترة أم أختار من نفسه ذاك العبد الذليل الذي يكتفي بسوق البعير إلى مولاه؟

هكذا بين أوتار التردد كنت أمارس إيقاعي في سبل الضياع، ولم يكن ليخفى علي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقي، القول بالإيجاب يعني انقضاض ما بني بمقدار سبع بقرات بتأويل قرآني يوسفي، الإجابة ب"نعم أنا موافق" معادلة ساذجة ناتجها البدء من أول البدء، البدء من الصفر، البدء من الأساس، حتى جعبة العشرة أحزاب التي كانت حصلية الكُتَّابِ لحولين كاملين أضحت خاوية على عروشها، ولم يعد منها في جوزاء الذهن إلا رسوما دارسة وأطلالا بالية تستدعي المقائي على بكائية الديار:
"وفقت فيها أصيلا كي أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد"
-دع ذا وخبرني: أَتُقْدِمُ أَمْ تُحْجِمُ؟
-حسن سأُقدم! سأحفظ قرآن الله.
-هل.. هل أنت جاد؟! لماذا؟
– لماذا؟! لأنها رغبتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.