شعار قسم مدونات

الطريق إلى بِرْبَاط

blogs- الحرب

(إنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء) في طريقنا سويّاً إلى وادي "برباط"، أعرني عزيزي القارئ بعض وقتك لأخبرك أين نحن، وكيف تسير الأمور هاهنا، كتوطئة ومقدّمة لما سيقال. المكان هو شمال "أفريقيّة"، أو شمال أفريقيا، على بعد مئات الكيلومترات من وادي برباط في الأندلس. في هذه البقعة الجغرافية البعيدة جداً عن شبه الجزيرة العربية والشام، تعيش قبائل "البربر"، التي طالما (ارتدت عن الإسلام) بعد الفتوحات الإسلامية المتكررة لأراضيهم، لكن سيكون للبربر موعدٌ مع الإسلام بعد أن جاء -موسى بن نُصير- وهو قائد جيوش الأمويين في مصر، إلى شمال أفريقيا أرض "البربر"، بعد أن كلفه عبد العزيز بن مروان والي مصر ثم والي أفريقيا الذي ثبّت الإسلام هناك، وهو أخ الخليفة يومئذ عبد الملك بن مروان.

علم موسى بن نُصير بعد أن اتخذ من "القيروان" مكاناً لإقامته وولايته على شمال إفريقيا سبب ردة الناس عن الإسلام وهو الفتح السريع لهذه البلاد بدون حماية الظهر، فقرر أن يكون الفتح هذه المرة بأناة وتأمين الظهر، فاستمر في فتح شمال إفريقيا 6 سنوات، وهي التي كانت تفتح من قبل في أشهر معدودات، ثم إنه بذكائه علم أن القوم لم يعرفوا الإسلام وأدرك أن التعليم الضعيف للإسلام، هو ما جعل أهل هذه البقعة يرتدون عن دين الله متى ما حانت لهم الفرصة، فأرسل بطلب علماء التابعين ليعلموا الناس الإسلام، فأحبّ البربر الدين حُبّاً شديداً فأصبحوا أهل الإسلام وجنوده.

الآن.. كل شمال أفريقيا يدين بالإسلام عدا بقعة صغيرة تُسمى جزيرة "سبتة". ومن منطلق قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم)، سيبدأ ابن النصير التفكير في فتح الأندلس، والتي لم يكن التفكير بفتحها حديثا، فرحم الله الخليفة الراشد عثمان بن عفان إذ كان يقول، بعد أن استعصى على المسلمين فتح القسطنطينية: "إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتـم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان".

ضخمُ جثّةٍ أشقر طويل الشعر وسيم جداً من البربر واسمه "طارق بن زياد"، يكلفُ من موسى بن نُصير بحماية ميناء طنجة، ومع هذا التكليف لأحد أبرز وأمهر القادة بدأ المسير إلى الهدف، أرض الأندلس، لكن ستكون هناك عقبات قبل التحرك لتلك البقعة من أبرز هذه العقبات.

1- عدم وجود سفن بالعدد الكافي للانتقال عبر مضيق جبل طارق للأندلس (المضيق بعرض 37 كم في بعض المناطق).

2- جزر البليار (شرق الأندلس)، مملوكة للروم ومحكومة منهم، وستكون في ظهر الأندلس.
3- قوات المسلمين قليلة ومنتشرة في كل شمال أفريقيا، بينما قوات النصارى كبيرة جداً ولدى (لوذريق)، الحاكم الحالي للأندلس والمنقلب على (غيطشة) عديد القلاع والحصون.
4- ميناء سبتة والذي يطل على جبل طارق ويسيطر عليه شخص يدعى (جوليان) وهي البقعة الوحيدة التي لم تفتح بعد.
5- أرض الأندلس مجهولة تماماً، وجغرافيا الأندلس صعبة على الجيوش ( جبال – أنهار – بحيرات)
وعلى الفور بدأ (موسى) بحلحلة المشاكل والعقبات فقاموا بالتالي:
– بناء عدد من الموانئ البحرية وأشهرها ميناء القيروان، وبناء عدد من السفن. 
– فتح جزر البليار وحماية الظهر من جهة الشرق.
– تكوين فرق من البربر على عقيدة (كيف تموت في سبيل الله) ستكون هي جيش الإسلام، فبعد سنتين فقط سيكون جل الجيش من البربر وهم جنود الدين.
– تولية طارق بن زياد (تقوى – كفاءة الحربية) لفتح الأندلس، وهو الذي يجيد (العربية – البربرية)، فسيكون على تواصل مع كامل الجيش.
 

كان لاختيار طارق لمكانه بوادي برباط أبعاد استراتيجية وعسكرية، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حمى ظهره وميمنته، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تماما.

إلا أن مشكلة جزيرة وميناء سبتة وغرابة أرض الأندلس لم تُحلاّ حتى اللحظة، وهنا وبعد استفراغ الوسع يدبر الله -عز وجل- لعباده (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)، فحاكم سبتة (جوليان)، خاف كثرة المسلمين من حوله، ولما يحمل من حقد على (لوذريق) حاكم الأندلس، لقتله صديقه (غيطشة) الحاكم الأسبق، سيكون لوالي طنجة طارق أن يقابل رسل من (جوليان) يعرضون عليه :
1- تسليم ميناء سبتة.
2- تزويد جيش طارق بالسفن لعبور المضيق.
3- معلومات عن الأندلس وكأن الجيش يراها.

على أمر بسيط جداً … (جوليان) يريد أملاك (غيطشة) المسلوبة من (لوذريق) فقط.

وفي التراتبية المعروفة لدى الدول والي طنجة "طارق"، يخاطب والي أفريقيا "بن النصير" والذي بدوره يرسل للخليفة "الوليد بن عبد الملك"، فجاء رد الخليفة الوليد: (خضها بالسرايا حتى تختبرها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال).  ولأمر الخليفة تجهز سرية من 500 رجل للاختبار على رأسهم طريف بن مالك وهو من البربر للعبور من المغرب للأندلس عام 91هـ، ثم عاد "طريف" بنجاح مكملا للمهمة.

تجهز الجيش في عام إلى أن وصل إلى 7 آلاف مقاتل، وُلي عليهم طارق بن زياد وبدأ عبور المضيق في شعبان سنة 92 هـ ونزل الجيش على الجبل التاريخي جبل طارق، ثم إلى بقعة تسمى الجزيرة الخضراء ليقابل الجيش الحامية الجنوبية للأندلس الموجودة هناك، وعلى عادة المسلمين عرض عليهم:(الدخول في الإسلام ويكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا، أو دفع الجزية ونترك لكم أيضا ما في أيديكم، أو القتال). لكن تلك الحامية أخذتها العزة وأبت إلا القتال فانتصر عليهم طارق، فأرسل زعيمهم رسالة عاجلة إلى (لوذريق) وكان في "طليطلة" عاصمة الأندلس، يقول له فيها: أدركنا؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟

جن جنون (لوذريق) وجمع 100 ألف مقاتل وجاء بهم إلى الجنوب ليقابل طارق بن زياد، فطلب طارق المدد من بن النصير فأرسل له 5 آلاف من الرجالة، على رأسهم طريف بن مالك ليصبح قوام الجيش 12 ألف، بحث طارق بن زياد عن أرض تصلح للقتال حتى اهتدى إلى "وادي البرباط"، ويسمى أيضا وادي لُكّة أو لكة. كان لاختيار طارق أبعاد استراتيجية وعسكرية، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حمى ظهره وميمنته، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تماما، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي (أي في ظهره) فرقة قوية؛ حتى لا يباغت أحد ظهر الجيش.

جاء لوذريق في أبهى زينة، يلبس التاج الذهبي، ويجلس على سرير محلى بالذهب، على رأس مائة ألف، وفي 28 رمضان سنة 92 هـ ستدور المعركة الأشرس، معركة وادي برباط، التي استمرت 8 أيام تخللها عيد الفطر المبارك، إلى أن منّ الله على المسلمين بالنصر، وقُتِل (لوذريق) أو فر واختَفى ذكرُ الحاكم الظالم.

هل أحرق طارق السفن، حتى يحمس الجيش على القتال؟ هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي. فقط المصادر الأوروبيّة قد أشاعت هذا الأمر؛ لأنهم لم يستطيعوا تفسير كيف انتصر 12 ألفا من الرجّالة على 100 ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم، فهي بحثهم عن تفسير مقنع لهذا الانتصار الغريب. وأخيراً لقد فتحت "وادي برباط" على الأندلس حضارة وتقدما ظل أثرهُا إلى يوم الناس هذا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.