شعار قسم مدونات

باراديغمات المحارب اليهودي

blogs - جندي إسرائيلي
الوعي هو المجموع الكلي للعمليات العقلية التي يتمكن بواسطتها الإنسان من إدراك الواقع والتماهي مع مكوناته، لكونه – أي الوعي – شكلا متقدما من أشكال انعكاس الواقع الموضوعي الذي يتفاعل معه الإنسان في ضوء أهدافه ومنطلقاته، وبالتالي يصبح –أي الإنسان- قادراً على كشف أولوياته لكون الوعي نتاجاً من نتاجات التطور الاجتماعى.

والوعي يرتبط عضويا بمعنى "الأنا"، ففي معجم لالاند الفلسفي ورد في معنى الأنا "وعي فردي، بوصفه منشغلا بمصالحه ومنحازا لذاته"، وهو أيضا: "الميل إلى إرجاع كل شيء إلى الذات". ويستشهد لالاند بعبارة للفيلسوف واللاهوتي الفرنسي باسكال يقول فيها "للأنا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم، ذلك لأن كل "أنا" هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل".

والوعي الجمعي يتشكل في التاريخ من خلال تفكيك الـ"أنا" وخلق نموذج إدراكي واحد يحل محل الذات، ويتمركز حول مجموعة من الافتراضات والمبادئ التي تقع خارجها، لكن هذا لا ينفي الذاتية بشكل قاطع، وإن كان يتحكم في توجهاتها، بحيث ينشأ نظام للتفكير من مجموع ما تمفصل في البنى الذهنية من قيم وعقائد وأفكار وخبرات مهمتها رسم الأطر التي يتشكل في سياقاتها الفعل الإنساني، وهو ما يطلق عليه الباراديم Paradigm"، وهو حسب توصيف "توماس كوهن Thomas Kuhn" نسق قابل للتغيير في كل مراحله، من خلاله تتخلق التصورات وعليه تتحدد المواقف.

ما إن علمت الهاجاناة بتلك التطورات، حتى أدركت مدى الخطر الذي باتت تلك المجموعة تمثله، وتنبهت إلي الخطورة التي يمثلها التزايد المستمر في عدد أعضائها المنضمين إلى التنظيم.

وعلى صعيد الشخصية اليهودية، شكل الحنين إلى الماضي، أو الحنين التاريخي، منطلقا رئيسا تموضعت فيه الحركات الصهيونية هربا من قسوة الواقع، وتشرنقت في ثناياه حد التوحد، وهو ما فرض أنماطا قَبْلّية استلهم المحارب اليهودي معطاياتها بحيث أصبح التاريخ مهيمنا على مستويات الإدراك الفعلي للواقع، وانحلت المعرفة إلى مجرد نسق صوري مجرد للوقائع التاريخية، من خلال خطاب المظلومية التاريخية ومركزه اليهودي الهائم في دروب التيه والاضطهاد، والعنف المفرط كضرورة يراها حتمية مستندا إلى نصوص دينية في غير موضعها، ومن ثم شكل التموقع في التاريخ أمرًا حتميًا في سياق مشروع الدولة الصهيونية.

ويمكن القول إن الفترة الزمنية التى واكبت الحرب العالمية الثانية هي فترة تجلت فيها باراديغمات المحارب اليهودي في فلسطين، وقد استفاد من خبرات طويلة تراكمت منذ كوًّن "فلاديمير جابتونسكى Vladimir gabotinsky" مجموعته العسكرية الهاجاناة التي شاركت في أول عمل هجومي في أحداث يوم النبي موسى في القدس عام 1920م، بعد سنوات من اقتصار أعمال العسكرية الصهيونية (الهاشومير وبارجيورا) في فلسطين على أنشطة الحراسة، وقد ظهر نمطان من الأنشطة العسكرية؛ الأول: نمط محافظ ومتوجس يسعى إلى الاستمرار في رفع خطاب المظلومية التاريخية ووضع العسكرية الصهيونية في خدمة الإمبريالية البريطانية تمهيدا لاقتناص الغنائم بعد انتهاء الحرب، وقد مثلت الهاجاناة بصفتها الجناح العسكري للوكالة اليهودية (اليسار الصهيوني) هذا الاتجاه، والثاني راديكالي شديد التطرف يرى أن الانتصار يتطلب مواجهة الجميع بما فيهم دولة الانتداب –بريطانيا- والتي لا تختلف عن النازي في أطماعها، وأن العنف هو السلاح الأول لانهاء الانتداب وإعلان قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين، ومثلت الأرجون الجناح العسكري للحركة التصحيحية (اليمين الصهيوني)، ومعها عصابات شترن المسلحة هذا الاتجاه.

نجحت الهاجاناة في الإفلات من المصير الذي واجهته الإرجون من قبل، حيث كادت مغامرة آيد لبيرج أن تؤدي إلى إضعافها، وتهديد تماسكها الداخلي.

اليسار يحفظ مواقعه واليمين يستعيد توازنه
تمكن اليسار الصهيوني ممثلا في الوكالة اليهودية وجناحها العسكري الهاجاناة من الحفاظ على التماسك الداخلي، ومواجهة خطر الانقسام، فمع مطلع نوفمبر 1943 م انشق "يوسف أيدلبيرج Joseph Iidlberg" أحد قيادي الهاجاناه في حيفا، مكوناً تنظيم الشعب المقاتل، وهو تنظيم ضم إلى صفوفه عناصر من شتى الاتجاهات الصهيونية، حيث التحق به مجموعة من قادة الإرجون مثل "إلياهو لانكين Eliahu Lankin"، و"إلياهو متسادي Eliahu Mitsadi"، وغيرهم من أعضاء المليشيات التي عانت آنذاك من التيه في دروب التخبط، كما جذب التنظيم الجديد مجموعة كبيرة من أعضاء الهاجاناة المدعومين بعناصر من قوات البالماح (القوة الضاربة للهاجاناة)، حيث سعى التنظيم إلى جمع اليشوف (التجمع اليهودي في فلسطين) حول أهداف عامة؛ مثل ضرورة إقامة جيش عبري مستقل يعمل إلى جانب الحلفاء، والتصدي لسياسة الكتاب الأبيض البريطانية التي تقيد الهجرة إلى فلسطين عن طريق تصفية بعض الساسة البريطانيين، والدعوة لإقامة الدولة اليهودية بحيث تشمل فلسطين وشرق الأردن وسيناء.

وأعدت المنظمة خطة لاختطاف المندوب السامي البريطاني في فلسطين هارولد ماكمايكل ومحاكمته؛ إلا أنها لم تنفذ، وما إن علمت الهاجاناة بتلك التطورات، حتى أدركت مدى الخطر الذي باتت تلك المجموعة تمثله، وتنبهت إلي الخطورة التي يمثلها التزايد المستمر في عدد أعضائها المنضمين إلى التنظيم، وعلى الفور قررت الهاجاناة وضع حد للفصيل المنشق، وأصدرت أمراً واضحاً نص على التالي "كل عضو في المنظمة يجري اتصالاً أو أيه علاقة مع تنظيم الشعب المقاتل عقب مضي 72 ساعة على هذا القرار يعتبر متهماً بالتآمر ضد منظمة الهاجاناة العبرية وينال عقاباً صارماً"، واتبعت ذلك بسلسلة من الملاحقات لعناصرها المنضمين إلى التنظيم الذي سرعان ما لفظ أنفاسه بفضل تصدي الهاجاناة له، وتم إخضاع يوسف ايدلبيرج للمحاكمة .

وعلى هذا نجحت الهاجاناة في الإفلات من المصير الذي واجهته الإرجون من قبل، حيث كادت مغامرة آيد لبيرج أن تؤدي إلى إضعافها، وتهديد تماسكها الداخلي، ويمكن اعتبار محاولة آيد لبيرج أول محاولة جادة لتوحيد العسكرية الصهيونية بشكل عملي للوقوف في وجه الإصرار البريطاني على تنفيذ سياسة الكتاب الأبيض، كتمهيد للتمرد الصهيوني في فلسطين 1943- 1947م.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.