شعار قسم مدونات

النسبية الزمنية: الصحيح والخاطئ على ضوء الثوابت والمتغيرات

blogs-lمنزل

"قدر الطبيعة بالنسبة للنساء أن يذعنَّ بالطاعة للرجال"

 الفيلسوف السويسري جان جاك روسو في القرن السابع عشر الميلادي

"الرجل والمرأة متساويان في الحقوق ويكفل القانون المساواة القانونية والفعلية بينهما خاصة في الأسرة والتعليم والعمل، ولكل من الرجل والمرأة الحق في نفس الأجر عن نفس العمل." الدستور السويسري الحالي

 

لسنا هنا بصدد مناقشة قضية المرأة حتماً، ولكنني أدعوك للتوقف برهة للمقارنة بين الحالين، أعتقد أنني خلال خمسة وعشرين عاماً قد تعلمت قاعدة وحيدة بسيطة، هي:

"كون المجتمع من حولك في إطار زمني معين متفق على صحة أمر ما فهذا لا يعني قطعية صحته"

 

الإنسان جُبل على الغرور بنفسه، بل والغرور بزمنه، ففي كل حقبة زمنية يرى الإنسان نفسه قد أنجز ما لايمكن إنجازه، وأنه يملك العالم بأسره، وأن رأيه هو الصواب القطعي الأوحد، وأنه قد وصل إلى قمة العقل ومجده

هذه القاعدة الفريدة لربما لو عولجت بها أكثر أزماتنا لتبين لنا أننا كنا ندور في حلقات مفرغة من الاقتتال بين الخطأ والخاطئ.

 

في القرن السابع عشر الميلادي كان انطباع الأغلبية في سويسرا -كما يقول الفيلسوف- بأن المرأة تابعة للرجل، كذلك كان المجتمع ينظر للمرأة في تلك الفترة ويرى رؤيته صائبة من جميع النواحي، اليوم يجرم القانون السويسري الانتقاص من قدر المرأة ويساويها تماماً بالرجل، ويرى المجتمع أيضا بأن هذا الأمر هو الصحيح مطلقاً.

 

الشذوذ الجنسي مثال آخر يوضع تحت هذه القاعدة للمعالجة، فحتى نهايات القرن التاسع عشر كانت أغلب الدول تجرم هذا الفعل، الآن وفي بعض الدول الأوروبية فقط وصف الأمر بـ "الشذوذ" قد يدخلك السجن.

 

لا أريد هنا أن أفند أي الرأيين أصوب في الحالات السابقة، ولكن أريدك أن تعمل عقلك قليلاً، "ما هو صحيح في زمنك قد يكون في زمن آخر محرماً، أو ربما محض خرافة"

 

الشعب العربي الآن يدعو لفلسطين عربية بحدود 26 ألف كيلومتر مربع تقريبا لا وجود لدولة إسرائيل فيها -بغض النظر عن رؤية الحكومات العربية التي ترى هذه المساحة مقسمة لدولتين عربية وإسرائيلية- ويرى الشعب العربي القدس عاصمة لهذه الدولة، وهذا ما يرونه صحيحاً وحقاً مشروعاً لا يمكن التنازل عنه.

 

لقد نسي هؤلاء بفعل الوطنية المحدثة أنه قبل مئة عام لم يكن هناك فرق بين فلسطيني وسوري وأن جدي "السوري" أطال الله في عمره قد زار القدس من دون أن يتحصل على جواز سفر، وصلى في المسجد الأقصى، يقول العرب: "ساعدنا الشعب الفلسطيني" ونسوا بذاكرتهم القصيرة جداً بأن المنطقة كانت واحدة وأنهم كانوا شعباً واحداً لا تفرقه هذه الحدود الموضوعة والوطنية المحدثة.

 

نضال العرب اليوم لأجل "فلسطين عربية" هو أسمى نضالات العرب في العصر الحديث، ذلك النضال الذي خاضوا من أجله الحروب وضحوا من أجله بدماء أبنائهم قد يكون في زمن آخر جريمة، فلا توجد فلسطين مستقلة عن العالم العربي والإسلامي من حولها، كذلك لا توجد سورية مقسمة عن لبنان ولا تربطها بأبناء الحجاز صلة، وما هو صحيح في الإطار الزمني المتواجد فيه لا يجب أن يكون قطعي الصحة.

 

الإنسان جُبل على الغرور بنفسه، بل والغرور بزمنه، ففي كل حقبة زمنية يرى الإنسان نفسه قد أنجز ما لايمكن إنجازه، وأنه يملك العالم بأسره، وأن رأيه هو الصواب القطعي الأوحد، وأنه قد وصل إلى قمة العقل ومجده، وأن من سبقوه كانوا أقل منه علماً ومعرفة، وبالطبع أقل صحة وأكثر خطأً.

 

كيف أتعامل مع هذه الأزمة؟ وكيف أفرق إذاً بين ما هو صحيح وما هو خاطئ؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن يكون الشخص على دراية بمزية عصره وبم يتميز وقته الحالي عن غيره.

 

الأمة الإسلامية اليوم والعربية على وجه الخصوص، مطالبة بإعادة ترتيب الثوابت، وصياغة القيم، ومراجعة الأصول؛ لتحدد هويتها فتخرج من دوامة التيه والتلوث الفكري التي وضعها فيه المحتل

أعتقد أننا في العصر الحالي نتميز بالعولمة، وتأثيرها على منطقتنا غالبا ما يكون بالسلب؛ لأننا لا نملك القوة الحضارية والثقافية والمعرفية والصناعية المؤثرة؛ لذلك ستجر مجتمعاتنا لمحاولة تقليد "الأرقى والأسمى والأكثر تحضراً"؛ سعياً منها لإدراك ما فاتها ومواكبة الآخر وعدم التخلف عنه؛ مما سيجعل تفكير المجتمع تابعاً لغيره حتى في أصغر الأمور متناسيا عاداته وثوابته.

 

لكي تضع أي أمر مهما كان صغيراً أو كبيراً على مقياس الصحيح والخاطئ المطلق، ولكيلا تكون مقلدا للأقوى فقط دون معرفة الصواب من الخطأ، يجب أن تحدد ابتداء ثوابتك ومتغيراتك، ما المبادئ والقيم والثوابت التي تحددك كشخص وكمجتمع وكمنطقة وكأمة والتي لا يمكن التنازل عنها والمتغيرات التي يمكن تشكيلها بحسب الزمن الذي تعيش فيه.

 

الأزمة التي تمر بها منطقتنا منذ بدايات القرن الماضي هي أزمة إيمان ومعتقدات لا أزمة تضحيات، أزمة ثوابت وأفكار لا أزمة قدرات، أزمة مشروع لا أزمة طاقات، ما لم تحدد ثوابتك سيحددها لك غيرك، ثم ستجد نفسك تنادي بها وكأنها الحق المقدس الذي لا تنازل عنه.

 

الأمة الإسلامية اليوم، والعربية على وجه الخصوص، مطالبة بإعادة ترتيب الثوابت، وصياغة القيم، ومراجعة الأصول؛ لتحدد هويتها فتخرج من دوامة التيه والتلوث الفكري التي وضعها فيه المحتل، ثم تستطيع أن تقرر بعدها أين وكيف ستكون بين الأمم.

 

الديمقراطية على سبيل المثال اليوم حق مقدس تقام من أجله المؤتمرات، وتشعل الحروب، وينادي به الجميع، والمساس به يعد مساساً بالحقوق الإنسانية، ربما في زمن قادم سيكون هناك إنسان يوماً يضحك كيف كان العالم اليوم ينظر للديمقراطية على أنها أساس الحرية؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.