شعار قسم مدونات

نحتاج رصاصا ثقافيا فقط

blogs - رصاصة
بعدما تم اغتيال كل أمل في التغيير وأصبحت الأمنية الكبيرة العودة إلى الوضع السابق قبل ثورات الواقع العربي، وفي وضع كهذا لا يكون أمام الشعوب إلا اللجوء إلى رصاص الثقافة بعد فشل رصاص المدافع ومصادرة رصاص الحناجر، فرصاص الثقافة كالألغام المدفونة التي لا ترى ولا تنفجر إلا فجأة،
ألم تقم النازية بتفجير قبور الأدباء الروس العظام مثل تولستوي ودستيفسكي وبوشكين؟ رغم أن هؤلاء ماتوا منذ أزمنة غابرة قبل الثورة البلشفية بكثير، ولكنهم بالنسبة للنازي المحتل يشكلون رمزاً للجمال والثقافة التي تكرههما الرأسمالية والفاشية، ويعريانهما بصفتهما خارج سياق الإنسانية، لذلك اعتبروا تلك الأضرحة مخزنا للرصاص لا ينضب، فرصاص الثقافة لا يكمن في الأحياء من المثقفين فقط،
فالثقافة تسبب هلعاً للعدو، فهي أخطر عليه من العمل السياسي التقليدي المباشر أو حمل السلاح.

يقول المفكر المصري الراحل محمود أمين العالم: ”هناك علاقات تناقضية جدلية منتجة بين سلطة الثقافة وثقافة السلطة”، كما نجد مقولة غوبلز وزير الدعاية في ألمانيا النازية وهو من أشرس مساعدي هتلر، ولكنه يستشعر الخطر والخوف من كلمة ثقافة، والتي عبر عنها بقولته: ” كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي”، ويزخر التاريخ بكثير من الشواهد على ذلك: فمثلاً وفي محطات تاريخية معروفة اختارت قوى الظلام اغتيال مفكرين مثل حسين مروة ومهدي عامل وفرج فودة وغسان كنفاني، وحاولت اغتيال الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ بطعنة في رقبته، فهذه القوى المتخلفة المنسجمة الاتجاه مع النيوليبرالية والصهيونية والضالعة في مشروعاتها، لم تختر عدواً صهيونياً أو رجال سلاح بل ركزت جل حقدها على الثقافة والكلمة.

ولماذا يتعرض آلاف من المبدعين والمفكرين والمثقفين إلى السجن والتعذيب والتنكيل والإعدام؟ ألا يشكل ذلك دليلاً لا لبس فيه على أن المثقف ونتاجه يشكلان خطراً قد يكون أكثر من خطر الإرهابي على المستعمر والمستبد والظلامي؟

هل قرأتم لتولستوي ودستيفسكي وبوشكين، فردوا مستغربين عليه بأن هؤلاء من مخلفات الماضي الذي قضت عليها الثورة، فقال لهم: هؤلاء هم من حضّر ومهّد للثورة.

لماذا يعيش الشعراء والمفكرون مطاردين فلا يجدون أرحم من العيش والموت فيه سوى المنافي؟ مثل الجواهري والبياتي ونازك الملائكة وناظم حكمت، هذا الأخير الذي كانت السلطات التركية تخشى حتى من رفاته وليس أعماله وفكره فقط.

يحتاج الفرد في ظل الانتفاضات والثورات العربية وحركة التحرر العالمي، إلى إعادة ثقته بنفسه وبدوره ومكانته، فالثورات العربية التي وصفت بأنها شبابية وتكنولوجية، كان القصد من ذلك تهميش دور المثقفين والمفكرين والاحزاب فيها التي أعطت الذريعة بتأخرها عن انتفاضات الجماهير مع استثناءات قليلة، فبدلاً من أن تكون مستعدة لنضوج الظروف الموضوعية في بلدانها والذي لا تخطئه الحواس، وتطور أساليبها في التوعية والتعبئة، تركت الأمر للشباب لتولي الراية حيث أنهم قد يمتلكون الحماسة لكنهم لا يمتلكون الرؤية ولا المشروع ولا النضج الثقافي، حيث انغمست حركة الجماهير وهي في ميادين نضالها الأساسي، في نشوة النصر المؤقتة، وتركت الميادين وتركت الثمار ليقطفها الإسلام السياسي، لأن المحرك الأساسي للجماهير في غياب التوعية والتعبئة، كان المزاج الجماهيري وليس الوعي الجماهيري، والتوعية والتعبئة تحتاج لثقافة نضالية دؤوبة من أجل تغيير موازين القوى لصالح الجماهير وقضاياهم ولصالح قضية التقدم ذاتها.

يحتاج الفكر الجماهيري للإنتاج المعرفي والفكري والنقدي حول مستجدات العصر، التي تبدلت منذ أكثر من عشرين عاماً، والتعامل المبدع مع النظرية بصفتها “ثقافية بلا ضفاف ولا تخضع لفكر سياسي يوجهها لمصالحه”، يحتاج الفكر الجماهيري إلى الأسئلة أكثر مما يحتاج إلى الإجابات الجاهزة والمعلبة أو المقولبة، والانطلاق من الواقع إلى النظرية وليس العكس.

كما أن مواجهة القوى الظلامية تستوجب طرحا جديدا يتطلب الفضح وكشف حقيقتها استناداً إلى التحليل الطبقي العلمي، من خلال المقالة والدراسة والبحث والندوات الفكرية والثقافية، بدلاً من الاستناد إلى التحليل السياسي الجاهز، الذي قد يكون نتاج مشاعرنا وعواطفنا وأفكارنا المسبقة.

ويضرب لنا لينين مثالاً لأهمية الثقافة والفن والأدب في لقائه مع الكمسمول عندما سأل طلبة الجامعة من الشبيبة الشيوعية: هل قرأتم لتولستوي ودستيفسكي وبوشكين، فردوا مستغربين عليه بأن هؤلاء من مخلفات الماضي الذي قضت عليها الثورة، فقال لهم: هؤلاء هم من حضّر ومهّد للثورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.