شعار قسم مدونات

ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأولِّ!

blogs- الكتابة

أَعْلَمُ أنّٓ العنوان رومنسيٌ جداً ودفع الكثيرين منكم للنقر على المدونة بفضولٍ عارمٍ طمعاً في قراءة قصة حبٍّ عاصفة تُشعل نبضات القلب وتدغدغ الروح وتلامس الفكر والوجدان، هي كذلك فعلاً، هي المشاعر الفياضة الدافئة المنسابة ما بيني وما بين معشوقتي "الكتابة"..! هي الحبيبة التي هجرتها قسراً وطويتُ صفحتها وأطفأت شعلتها، ليدور بي الزمان ويحلّق بي نورسه مُعيدني إليها، لنتعانق عناق العشاق، ويرجع الحب العظيم ما بيننا ليرويٓ حقبةً جديدة من الشغف الذي لا يموت، ويثبت أنّٓ قطار اللقاء لا يفوت.
 

تجبرنا تقلبات الحياة وضرورياتها المهمة إلى إهمال جزءٍ كبيرٍ من مواهبنا الدفينة، فنخطئ كثيراً عندما نفشل في الموازنة ما بين الموهبة والواقع المُعاش، وندعّي اللامبالاة تجاه قدراتنا المميزة متذرعين بانشغالنا بأشياء أخرى، هذا ما حدث معي تماماً! بدأتُ الكتابة في عمر سبع سنوات، كنتُ أملك دفتراً خاصاً للقصص القصيرة والخواطر وآخر للقصائد، كانت كتاباتي طفولية بريئة جداً لكنها تعني لي الكثير، كنتُ أشعر أنني أصنع أمراً استثنائياً، وأنّٓ طاقة هائلة تجتاحني كلما احتضنتُ قلمي ودفتري وشرعتُ بالكتابة..
 

إهمالي للكتابة في المدرسة كان بسبب تفرغي للدراسة، أما في الجامعة أهملتُ دراستي لأجدد عشقي للكتابة وأعيد التناغم والألفة بيني وبينها.

وكان والداي حفظهما الله يحفزانني على الدوام بالمواظبة على القراءة التي تساهم في صقل موهبة الكتابة لدي فالقراءة والكتابة لا تنفصلان عن بعضهما، وهذا الذي جعلني عاشقةً للغة العربية وحصتها المدرسية وبالتحديد مادة التعبير، عندما كانت تطلب منا المعلمة تعبيراً حول موضوع معين اسرحُ بخيالي بعيداً لأكتب بطريقة مختلفة غير تقليدية، مما جعلني أحظى دائماً بأعلى علامةٍ.
 

ولكنني بقيتُ أكتب في حيزٍ ضيق ولم أفكر يوماً في المشاركة بمسابقة قصصية أو الكتابة في إحدى الصحف المحلية، وذلك بسبب تركيزي على الدراسة رغبةً في حصولي على معدلات فوق ال ٩٥ وفي أغلبها كنتُ أحصد الأولى على صفي، وفي مرحلة الثانوية أهملتُ الكتابة تماماً لأتفرّغ للإنشاد ضمن أوبريت المدرسة بقيادة معلمة التربية الإسلامية، فقد كان لاعتراف مدرستي بي بأنني امتلك صوتاً جميلاً صدى مؤثراً في نفسي، مع أنّٓ عائلتي كانت تهتم بموهبة الإنشاد عندي وفي سهراتنا الهادئة يطلبون أن اُنشد لهم، ويثنون على صوتي كثيراً بٓيْدٓ أنّٓ انتقالي من مرحلة الإنشاد في منزلي للإنشاد خارجه ضمن مدرسة تنظّم الكثير من الفعاليات المسرحية هو الذي جعلني أشعر بمسؤولية كبيرة وبجدية الموضوع.
 

وبعد حصولي على معدل ٩٠.٨ في الفرع العلمي لأجتاز امتحان الثانوية العامة بنجاح كان السؤال الذي يراودني دوماً: ماذا أدرس؟! مع أنه من البديهي في مجتمعنا أن تدرس التخصص الذي يناسب معدلك، لذلك اخترتُ أن أدرس الهندسة المعمارية، ولكنني وبعد إتمامي للفصل الدراسي الأول شعرتُ أن هندسة العمارة ليست طموحي ولم انسجم مع موادها الجامعية أبداً، لأختار بعدها أن أغيّر تخصصي وأدرس الهندسة الكهربائية، وأيضاً لم أجد نفسي في هذا التخصص ودفعتُ غالياً ثمن اختياري لتخصص بصورة عشوائية فقط إرضاءً لغرور معدلي التسعيني!
 

ولأنّٓ رُّب ضارةٍ نافعة، فقد كانت دراستي للهندسة التي لم أجد بها ضالتي سبباً رئيسياً لعودتي لأحضان محبوبتي الكتابة! ليتغير الحال وتنقلب الأمور، فإهمالي للكتابة في المدرسة كان بسبب تفرغي للدراسة، أما في الجامعة أهملتُ دراستي لأجدد عشقي للكتابة وأعيد التناغم والألفة بيني وبينها، فاشتركتُ في منتديات ستارتايمز لأصبح فيما بعد معهم مشرفة لمنتدى القصص القصيرة ومنتدى ذوي الاحتياجات الخاصة، ونشرتُ بعض المقالات في صحيفة جامعتي، وبعد تخرجي تزوجتُ وسافرتُ إلى دبي وأنجبت أول طفلين تباعاً لانقطع تماماً عن الكتابة وأهتمّ بتربية طفليْ، وعاد الفراق ليمزّق قلْبَيْنا من جديد، وتاهت خطواتي عن الكتابة لأمدٍ بعيد!
 

دامت غربتي عن الكتابة لأكثر من أربع سنوات، فبعدما كبر أطفالي قليلاً بدأتُ بالبحث على عمل في الهندسة لأن الجلوس في المنزل بالنسبة لي كان خانقاً يقتلني شيئاً فشيئاً، ولكنني كنتُ كمن يبحث عن سراب! فشروطي للعمل غير منطقية! وكنتُ أبحث عن وظيفة بدوام قصير وهذا الأمر يبدو مستحيلاً ضمن دوامة الحقول الهندسية، لأنني متعلقّة بصغاري كثيراً ولم أتصور للحظة أن أتركهم بين أيدي خادمة متوحشة، فمن كثرة الفيديوهات الإجرامية التي سُجلت ضد الخادمات اصبحت عندي فوبيا شديدة منهن، وكانت فكرة جلب خادمة تعتني بأطفالي مرفوضة تماماً لا مجال للنقاش فيها.
 

كما وأنني كارهة للحضانات أيضاً بسبب الشكاوي من أمهات عن أنّٓ أطفالهن باحتكاكهم المتواصل مع أطفال الحضانة يمرضون دائماً وتصيبهم العدوى المتكررة، فإصراري بأن أحصل على عملٍ بساعات دوام قصيرة ليناسب ذلك موعد عودة أطفالي من مدرستهم، وأغلب دوام المدارس هو للساعة الثانية ظهراً، فكنتُ أطمح بالعمل أثناء وجودهم في المدرسة فقط وهكذا يطمئن قلبي أكثر، فأين لي بدوامٍ هندسي للساعة الثانية ظهراً..؟!
 

وكي نبلغ القمة ونرتقي بأنفسنا إلى المكان الذي نطمح إليه كعمالقةٍ عِظام، يجب أن نجتهد جداً فهناك في القمة لا حيّز للكسالى الأقزام.

ونظراً لصعوبة التطلعات التي كنت أطمح إليها في الوظيفة التي حلم بها، ونظراً لاستحالة تفصيل وظيفة تناسبنا تماماً بكل جوانبها، ولإيماني الشديد أن أرزاقنا مقدرة تأتينا في الوقت المناسب، فكرتُ في عام 2015 أن أحيي موهبة الكتابة لديّٓ من جديد، فقررتُ إنشاء صفحة على الفيس بوك اسمها مجلة نـــداء لأدخل في مجال الكتابة الإلكترونية والتدوين الذي أصبح معروفاً جداً ودارجاً في زمننا التكنولوجي هذا، وبفضل الله لاقت الصفحة نجاحاً مميزاً وكتاباتي وصلت لقلوب عشرات الآلاف من المتابعين في الوطن العربي، وهذه الخطوة الناجحة أشعلت الحماس في نفسي لأنتسب مع مدونات الجزيرة أيضاً في شهر نوفمبر عام 2016، وكأنّٓ سنوات الانقطاع المريرة عن حبيبتي الكتابة أعادتني إليها بحنينٍ كبير، وشوق ليس له مثيل.
 

حتى هذه اللحظة لا علم إلى أين ستسحبني رحلتي الاستكشافية التي أُمضيها برفقة معشوقتي الكتابة، لا أدري إلى أين ستأخذني، وإلى أي المراتب ستوصلني، ما أعلمه في قرارة نفسي أنني أسعى لأن أصنع شيئاً ما، وأترك في حياتي أثراً وبصمةً لا تُمحى، ما أعلمه أنّٓ الذي يُؤْمِن بقدرته على العطاء ويأخذ بالأسباب ويتوكل على الله سيصل إلى مراده في نهاية المطاف، ففي داخل كل فردٍ فينا أمراً معيناً يميزه، موهبة لم يكتشفها بعد وأخفاها في زوايا الظلام ورمى بها لمخالب العتمة، غافلاً عن أنّٓ موهبته هي هدية الرحمن التي يجب أن تبصر النور وأعظم نعمة، نستطيع المضي قُدماً في طريق تحقيق أحلامنا بإيمانٍ كبير ويقين أننا قادرون، وأننا ببلوغ المجد جديرون.
 

وكي نبلغ القمة ونرتقي بأنفسنا إلى المكان الذي نطمح إليه كعمالقةٍ عِظام، يجب أن نجتهد جداً فهناك في القمة لا حيّز للكسالى الأقزام، نبتعد قليلاً عما أحببناه في صغرنا، لنعود إليه بمحضِ إرادتنا، نهجر قطعاً من أرواحنا لزمن طويل، ونعود لنجتمع بها في جو إبداعي جميل، نتأخر قليلاً عن الركب، ولكننا لا نحيد طويلاً عن الدرب، ومن أجمل العبارات التي تحفُّز المرء على العمل والجد والمثابرة وعدم إهماله لمواهبه الخلاّقة وتحثه على السعي الدؤوب لاقتناص فرص التألق البرّاقة هي التي قرأتُها للكاتب محمد معتوق الحسين يقول فيها:
نصيحتي لمن لا يقرأ.. اقرأ، ولمن يقرأ.. اكتب، ولمن يكتب.. انشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.