شعار قسم مدونات

نحو فهم إبستمولوجي لعلم القانون (1)

blogs-low

القانون؛ ذاك الشيء المعقد في ترابطاته الأولى، في انشاء قواعده، وتحديد مختلف وسائل الصياغة فيه، بل قل انه شيء ملتبس في جانبه العلائقي مع المجتمع، وقد وضحنا هذا اللبس في مقال قد سبق أن تصدينا فيه لهذا الاشكال، وعنوناه ب:"القانون الملتبس".

 

وفي هذا المقال نحاول الانطلاق من فرضية الترابط المنهجي بين القانون، ليس كنصوص جوفاء، بل كعلم مع العلوم الاجتماعية والعلوم الاخرى بشكل عام، هذه المنطلق الافتراضي، يجعل الكلام في باب الابستمولوجيا القانونية في موضع من الحضر المعرفي، حتى لا يقع المرء في التعميمات أو المسلمات الدوغمائية.

 

لما كان علم القانون في أصوله يرتبط باللغة، فان لهذه الأخيرة علوم تظهر معانيها وتجلي مقاصدها، وتوضح حروفها، وهي علوم كثيرة، خصوصا عند تصنيف الفقهاء المسلمون لها

إن المحاولة اليوم، منهجية، ذات بعد ابستمولوجي بالأساس، من أجل الابتعاد عن الربط "التخريجي" أو بلغة الفقه الاسلامي، المنهج "النوازلي" في القانون، والوصول إلى مرحلة متقدمة من خلال البحث عن المقاصد الخفية للقانون، أو البحث الدلالي لنص القانوني.

 

ويحتاج علم القانون لاكتساب هذه الممارسات العلمية الدقيقة، الاتصال المعرفي مع علوم أخرى، ولو من خلال البعد المنهجي، وهذا قد يدخل في الطرح العام الذي سبق وأن حاول الاستاذ "محمد همام" أن يؤسس له، والمتمثل في الدعوة إلى نهاية التخصص المعرفي الجامد، والدخول في مجال تداولي عام، مرتبط بفكرة التداخل المعرفي أو "تداخل المعارف" (يمكن مراجعة هذا الطرح من خلال: محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص، دار نماء، 2016).
 

لكن تجدر الاشارة إلى أن الاتجاه نحو القانون المركب ليس وليد الصدفة، بل وليد التأمل المطول في المجال محيط بالقانون الجامد، بل أن الكتاب الذي أشرنا له في السابق، قد تم الاطلاع عليه من قبلنا بعد أن تم تشكيل الصورة العامة لهذا الفهم المعقد، وأن هذا الفهم السابق ينطلق من خلال انشاء دائرة تداولية لعلم القانون، لا أن يبقى القانون منفصلا عن النسق العام، حتى اضحى المشتغلون به، منفصلون عن العلم، بل أصبحوا يخرجون المسائل فقط، وهذا محل الاشكال.

 

ولما كان علم القانون في أصوله يرتبط باللغة، فان لهذه الأخيرة علوم تظهر معانيها وتجلي مقاصدها، وتوضح حروفها، وهي علوم كثيرة، خصوصا عند تصنيف الفقهاء المسلمون لها، بل انقسم المسلمون إلى مدرسة في الكوفة، وأخرى في البصرة، وقد كان اختلافهما في بعض جزئيات الدراسة اللغوية في النحو، وهذين المدرستين، إنما مظهر من التطور اللغوي الذي حاول المسلمون التأسيس له، وما دامت اللغة حامل للقانون، فإن دراسة اللغة في جانبها العلائقي مع القانون مهمة جدا.

 

لقد تطورت علوم اللغة، وتعاظم شأنها، ليس في العربية فقط، بل في لغة العجم كذلك، وأصبحت مرتبطة بعلم الدلالة أو "السِّيمَنطِيقَا"؛ من خلال دراسة المعنى اللغوي عن طريق الفهم اللفظي للمفردات والكلمات، وكذلك علم الأدلة أو "السميوطيقا"؛ هي دراسة معقدة تفكيكية تبحث عن التضاد لأجل الوصول إلى المعنى أو الدلالة.

 

لكن يمكن ابراز ملاحظة مرتبطة بعدم الدعوة في هذا المقال إلى تعاطي المشتغل بعلم القانون مع اللغة، كتعاطي العالم المتخصص في اللغة، بل أن هذه الدعوة ستكون ضربا من الخيال، بل أن البحث اللغوي في النص القانوني، سيكون منهجيا، من خلال انشاء الدائرة التداولية المومأ اليها أعلاه، بين القانون والعلم، وإن عالم اللغة سيكون له دور اساسي بالانتقال من علوم اللغة الصرفة إلى الدراسة اللغوية للنص القانوني، وعلى المستوى المعرفي.

 

ولعل إطالة النظر العميق والدقيق في العلوم الاسلامية، الفقهية، يوضح بجلاء التعاطي المثمر للمتخصصين في الفقه مع اللغة والمبادئ اللغوية، كذلك علم الدلالات، بل إن أصول الفقه يعد مبحث الدلالات فيه أعظم المباحث واهمها.

 

كما أن التمعن في أصول الفقه، يظهر أنه هو أيضا يمكن ربطه التداولي والابستمولوجي مع القانون، من خلال الاستفادة من المنهجية الأصولية ذات البعد العلمي على اعتبار أن اصول الفقه هو منطق المسلمين، وطريقتهم في الاستدلال.

 

ولما كان الفقهاء يرتبطون ويتعاملون بمنهجية لغوية تأويلية مع نصوص مرتبطة بوحي الله جل علاه (القرآن الكريم)، وما تم اثباته عن الرسول محمد صلى الله عليه سلم (السنة)، فإن النص القانوني يحتاج التأويل ووسائل التعامل معه لغويا أيضا، بل التشديد في هذه الامور أهم بالمقارنة مع النصوص الشرعية، فهذا دليل حاسم، لإنهاء فرضية "تجزئ القانون" أو القول أنه مستقل في منهجيته وفي موضوعه ومضمونه، وهذا الأمر اعتبره الاستاذ "ميشيل مياي" بمثابة معيق ابستمولوجي لعلمية الظاهرة القانونية في كتابه "مدخل لنقد القانون".

إن جرد هذه المؤلفات ليس من قبيل الترف الفكري ولا من قبيل إظهار الاطلاع، بل هو أساس منهجي من خلال الاستناد على دلالة الكلام في موضع الافكار، ويمكن طرح أربعة مجالات علمية يجب أن يتصل بها القانون اتصالا منهجيا، من خلال الدائرة التداولية التي سبق وأن وضعناها في بداية المقال

 

– علم المنطق: الاتصال العقلي، من خلال محاولة تحديد التفكير القانوني، وعصمه من الوقوع في الخطأ

– علم اصول الفقه: الاتصال المنهجي، من خلال الاستفادة من منهج تلقي العلم الشرعي واسقاط بعض مناهجه على دراسة القانون من خلال الوسائل الكفيلة بالدراسة وليس المضمون التخريجي النمطي الذي يثق في النص وثوقا أعمى.

– علم الاجتماع: الاتصال الموضوعي، فتح المجال لدراسة السوسيولوجية للقانون، واستحضار الجانب العلائقي بين القانون والظاهرة المجتمعية التي تنقسم إلى نوعين:

 

المجال العلائقي بين المجال القانون والمجال الاجتماعي إنما هو علاقة مركبة، تدفع نحو التفكير في محاولة ارجاع القانون كوعاء للمضمون المجتمعي

فأما النوع الأول وهي علاقة المجتمع بالقانون في إطار آمرية القانون على المجتمع، وكيف ينتج هذه الآمرية تفاعلا سلبيا معه، ولعل من الواضح عندما يرى البعض ما يطرح لدى المواطن الرفض المستمر والنقد للآجالات والمساطر القضائية، وينتج هذا الامر تفاعلا سلبيا هذا التفاعل، ينتج سلوكا منحرفا تجاه القانون من اجل التملص منه أو مراوغته.

أما النوع الثاني، فهو علاقة علم القانون بعلم الاجتماع، أو دراسة القانون مستقلا عن العلوم الاجتماعية، وهذه مسألة اخرى مرتبطة بالإشكال الواقعي السابق.

 

إذن المجال العلائقي بين المجال القانون والمجال الاجتماعي إنما هو علاقة مركبة، تدفع نحو التفكير في محاولة ارجاع القانون كوعاء للمضمون المجتمعي.

 

– فلسفة التأويل: الاتصال اللغوي، من خلال فهم النص القانوني باستعمال وسائل التفسير، والاستفادة اللغوية من خلال "الهرمينوطيقا" أو الدائرة التأويلية من خلال المؤلف والنص ومستقبل النص، وهو محو هذا التأويل، أن التأسيس إلى هرمينوطيقا القانون يحتاج التعمق في أصل استعمالات اللغة من خلال علم الالسن.

 

إن هذا المقال هو مقدمة نحو الفهم الابستمولوجي للقانون كعلم، من خلال تداخل هذا القانون مع علوم أخرى سترجع لدارسيه خصوصا في مراحلهم الاولى ملكة الفهم والتعاطي الحر غير المقيد بالتقاليد العلمية التي لا يمكن له التفكير في تغييرها، وعلى الاقل التفكير في أصلها، وسيتبع هذا المقال سلسلة مقالات تعمق النظر عمليا في التأسيس لدائرة التداولية لعلم القانون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.