شعار قسم مدونات

قُـرآنٌ هَـجَـرْتُـهْ..

blogs - quran

لا يُفارق حقيبتي، معي أينما كنت، يشدُّ أزري، يُطمئن قلبي، يغلب وسوسة شيطاني، يداوي جروحي بكلماته الشافية، يربط على قلبي، يبهرني بمعجزاته، يُؤنسني في وحدتي، يثبِّتني على ديني لأحجز مقعداً في الفردوس، فأحببته، أحببت كتاباً..

هذا الكتاب أحببته دوناً عن غيره، هذا الكتاب ليس كسائر الكتب، هذا الكتاب معجزة على الأرض.. كتاب لا ريب فيه، كتاب مبين من علام حكيم.

وما الحب إلا اهتمام.. وكيف أهتم بكتاب؟ وماذا إن لم أوفه حقه؟ الأمر سهل عندما يكون تجاه إنسان، لكن ليس لكتاب.. كيف هو الاهتمام بكتاب.. تزينه بغلاف لامعٍ وملصقات ملونة؟ أم تفهم معانيه وتتدبر سطوره؟

إن الخالق يخلق لغاية لا للمزاج والهوى، والمخلوق يحتاج لما يرشده ويُعلِّمه واجبه، يحتاج "كتالوجاً" يوضح له حقيقة حياته، وهو عبد، وما للعبد إلا طاعة ربه، وربه أمره بتدبر كلماته.
أخذت أقرأ فيه كل يوم، ويوما بعد يوم زاد تعلقي، وأنا الذي أبغض التعلق لأن كل من على الأرض فانٍ، لكنه باقٍ، فحللت التعلق لنفسي حينما كان له، فيا حظي أصبت التعلق.

وكلما أحببته أحبني، وكلما صفيّت له نفسي أعطاني من نفحاته، وكلما يضيق صدري ألجأ له فأجده يرسل لي ما أحتاجه، ولا أحسبها صدفة فكل مرة يصيب اختيار الكلمات والعبرات، وكلما كررت آية أفهمها بشكل مختلف كأن لها ألف وجهٍ من التفسير، وإذا أعددت هداياه لا أحصيها.

لو كان بشراً يعطيني ما يعطيه هو لكنت فديته بعمري وجعلته وليّ أمري.. لكنت لزمته في كل وقت أتبعه وهو يُسيِّرني.. لكنت قتلت الحجج التي تمنعني لقاءه، إن كانت حججي أو حجج شيطاني.

عدت وسأعود كل مرة أهجره فيها، لأنه هو حياتي، وهو ما يبقى معي في مأزقي، سينير لي قبري وهو نور قلبي.

لكنه ليس بشراً ليكن هذا من حقه، فهجرته، وهجره ليس كأي محبوب.. فبعد الفراق يُنسى المُفارَق مِن عقل المُفارِق، ويظلُّ المُفارَق في نحيبه حتى ينسى ما حلَّ به.
أما حين هجرته كنت أنا المُفارَق والمُفاِرق، أنا الخاسر في كل الأحوال، أنا الذي يُسوّد قلبه ويغرق في نحيبه حتى ينام، أنا الذي يشعر بالوحدة ويأنَس بشيطانه، أنا الذي تتكون جبال الهموم كجبال الثلج على قلبه ولا يجد من يذيبها له.

ليس كل محبوب يقبل عودة تاركه، لكنّ الكتاب ليس مثلهم، إن هجرته أعواما بل عقودا وعدت إليه يفرح بعودتك. فهل تجد محبوبا كهذا؟! أضمن لك أنك لن تجد فلا تبحث.

لكنه كان غريباً حينما عدت.. ليس هو الذي اعتدتُ أن أقرأه، لم أعد أفهم منه شيئا، يقتلني الملل كلما أقرأه.. نعم، هذا نفس شعوري في أول مرة أقرأ فيها هذا الكتاب، ماذا عن علاقتنا السابقة؟ هل سأعود من البداية؟

ما شعرت به حينها كان كشعور الأخسرين أعمالاً، عندما يأتون في يوم القيامة بحسنات لا تحصى، ولكن لا يُقبل عملهم، وكأن كل ما بنوه صار رماداً، هذا ما فعلته أنا حينما هجرته، لما عدت له وجدت ما بنيته انهدم.

وهل يا ترى أنني لم أهجره مرة أخرى؟! بل إنني فعلت، لكنني عدت وسأعود كل مرة أهجره فيها، لأنه هو حياتي، وهو ما يبقى معي في مأزقي، سينير لي قبري وهو نور قلبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.