شعار قسم مدونات

أخضر قف

Syrian government green buses wait to carry fighters and their families during evacuation from rebel-held zones in Aleppo, Syria, 15 December 2016. The evacuation of Aleppo began on 15 December as the first ambulances and buses extracted the sick and wounded from final rebel-held zones in the northern Syrian city, the Red Cross NGO said. Reports state the first batch of 951 gunmen and their families were evacuated via al-Ramouseh crossing to Aleppo southwestern countryside. EPA/STR

ليل حالك، برد قارص، وثلج تصطك منه الأسنان وتتجمد الأطراف.. خِيَمٌ متراميةٌ على الأطراف تلتحف السماء والطائرات، عوائل مهجّرة مرحلة، من تلك الخيمة تسمع استهلال الأطفال يصدح مصحوباً بدمعات حارقة تكوي الفؤاد، تارة دمعة استبشارٍ بمولود مُحرِّر جديد، وتارة دمعة خوف لمستقبل شؤم ينتظره، وفي جارتها يصم أذناك أنين الكُهّل وآهاتهم، وفي تلك الحزينة نواح وحنين وثكلى تَعوِل فتصيب القلب بكدمات لن يبرأ منها، تكتِم أنفاسك على عجلٍ علّك تسمع صوت ترتيل يصحبه نحيب، شهقات متصاعدة ولعثمات أحرف غير مفهومة، ولعلعة " اللهم إنا مظلومون فانتصر" تصدح بالحق والرجاء..

ظلم وقهر، ذل واضطهاد، وصمت تلعنه الأرض والسماوات.. ولا شيء حولك سوى أشلاء وبقايا أحياء.. قطع متناثرة، أرواح متصاعدة، ونبضات قلب ما زالت تنبض بلهفة حزن وربما أمل.. والسؤال دائما ما القادم؟ من التالي؟ أي غطرسة لم تحلّ بنا بعد؟ وأي حبيب سنفقده بعد؟ وديارنا؟ بلادنا؟ حلب؟ آآهٍ يا حلب.. وأوّاه لوجعك يا شام.. وآهٍ ثمّ آهٍ من عروبة قتلت وإنسانية سُحقت ونخوة لم نعُد نسمعها إلا في المعلّقات!
 

توقفت الساعة وتوقف الزمن.. وعوداتٌ واتفاقيّات، ومؤسسات وجمعيات إنسانيّة دوليّة ترعاها فتُخذل، لم يعد لأي شيء حرمة ولا خط أحمر.

طالت الأيام وقست، قتل تدمير تهجير، حرق ذبح تفزيع، هتك أرواح وأعراض.. وموتٌ ثم موت.. توالى الليل بعد الليل، وطال على غريب دياره الانتظار، ضاقت الأرض بما رَحُبت، لم يتسع لقلبه في قلبه موضع ولا مكان، قبر كبير حواه، لا هو موؤود ولا مقتول، لا هو فوق الأرض ولا في جوفها، لا يُعنيه ما يدور حوله، لا تهمّه تقلبات الجوّ ولا حالته فإن هطل الغيث فواعوناً للمشرّدين، فلا أحد يقاسي الشتاء وبرده إلا من يفتقد موطنه، وإن عقمت السّحب عن المطر فلن تخرس الطائرات عن الصواريخ والقنابل العنقودية، وحينها.. عفواً.. لم يعد للزمن معنى حينها..

 

توقفت الساعة وتوقف الزمن.. وعوداتٌ واتفاقيّات، ومؤسسات وجمعيات إنسانيّة دوليّة ترعاها فتُخذل، لم يعد لأي شيء حرمة ولا خط أحمر، تُنكص العهود وتُنقض، وجمعيات أخر تحاول وتبادر من جديد، وما بوسعها؟ وقفٌ لما يجري؟ إنهاءٌ للحرب والمحرقة؟ حاشا وكلّا، تهجير وترحيل فقط! وإبعاد الحبيب عن معشوقته، ومرغمين استجابوا وانصاعوا، لعلّه أقل الضررين، والعودة قريبة حتماً، ألم يعُد مهجروا حيفا ويافا وعكا والصفد؟!، هه؟ متى عادوا؟! أحقاً عادوا؟ ربما!
 

لأوّل مرّة، لون النجاة بات لون الفراق.. لأوّل مرّة، الأخضر لن ترتاح له العيون ولن تبتهج بطلته القلوب.. بباصات خُضرٍ هُجّروا، بباصات خُضرٍ أُبعدوا، بباصات خُضرٍ قُتلوا ودُفنوا.

وبلحظةٍ، تجمّد التاريخ عندها، وصارت الأيام شريطاً مصوّراًً أمام أعينهم، هناك ترَعْرعنا، في هذه الزقّة لعبنا، تلك مدرستنا، وهناك حاكورة جدي، وفي الحارة القريبة كنّا نسهر في بيت ديار جدتي على ضوء القمر، وفي تلك المساجد تربينا، وذاك قبر الشيخ الذي تتلمذنا على يديه، هنا كُنّا، آآهٍ، بتنا نتحدث عنها بالماضي، أصدقاً كُناّ؟! وحتماً سنكون، وعداً ويقيناً سنكون، لم يهُم اليوم أم بعده، بعد سنة أو سنين، نحن أم أبناؤنا، أحفادنا أم أحفادهم، لكنّا يوماً سنكون وسنعود..

اصطفّت الباصات، وانتظمت طوابير نحو اللاأمل، نحو خوف النجاة وخوف اللانجاة، صعدت العوائل الناقصة حتماً، فإن لم ينقصها فردٌ فينقصها وطنها كلّه، اغرورقت العيون حسرةً وأسى، ضجيجٌ في المكان والأعماق، أكفٌّ تلوّح مودّعة، همسٌ غير مفهوم، دبيبٌ سريع الخطى للمجهول، اعتلوا الباصات، ولأوّل مرّة، صار الأخضرُ أحمراً..

لأوّل مرّة، لون النجاة بات لون الفراق.. لأوّل مرّة، الأخضر لن ترتاح له العيون ولن تبتهج بطلته القلوب.. بباصات خُضرٍ هُجّروا، بباصات خُضرٍ أُبعدوا، بباصات خُضرٍ قُتلوا ودُفنوا، بباصات خُضرٍ كان حتفهم، بباصات خُضرٍ توقفت حياتهم، بباصات خُضرٍ تساوى الموت والحياة.. فعُذراً لكل قوانين المرور، وعُذراً لكل انعكاسات الألوان.. في سوريا، أخضر قف!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.