شعار قسم مدونات

استبداد السعادة

blogs - happy boy

تستبد بنا السعادة كفرض واجب. تلاحقنا، تطاردنا وتخرج لنا من كل خرم ابرة لتذركنا بضرورة أن نكون سعداء.. أو أن نسعى لذلك بكل ما أوتينا من قوة في حال لم نكن.

 

وعند كل انتكاسة يخرج من ينبهنا إلى إن "الدنيا بألف خير علينا"، وأن "ننظر إلى مصائب غيرنا لتهون مصائبنا". وعليه لا مفر من أن نكون سعداء لما امتلكنا أو أنجزنا، أو حققنا.. أو لمجرد ان نهاراً جديداً تفتح علينا.

 

باختصار، ولأي سبب كان، لا بد وأن نكون سعداء.

 

تطالعنا على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية إعلانات تعريفية لصفحات متخصصة، أو اقتباسات أو أدعية، أو أقوال مأثورة تهددنا بسوء الطالع والحزن المديد إن لم نرسلها لعشرين "ضحية" آخرين: "ضع الحزن خلفك، وابحث عن السعادة في داخلك". "ابق ايجابياً حين ينهار العالم من حولك". "أطعمة صباحية لتحسين المزاج" هي نفسها "تهبط العزيمة إذا تناولتها في المساء". "يوغا لرفع المعنويات". "رشاقة وأناقة لاستعادة الثقة بالنفس". لوائح لا تنتهي من الشروط والموجبات لصد الكرب وإزاحة الهم عن القلب، لا أعرف متى وكيف استوطنت بيننا واحتلت مكانها في قاموسنا وفهمنا للأمور، وسلبتنا حقنا في الحزن.

 

حتى الأهل الجدد، إن سألتهم ماذا يتمنون لأبنائهم، صاروا يجيبون بتلقائية وعفوية "أن يكونوا سعداء". كما لو أن المسألة من المسلمات المتعارف عليها كما كانت "الوظيفة" أو الدرجة العلمية ذات يوم لجيل مضى.

 

كان ذات مرة غير بعيدة يكفي أن نكون على ما يرام، لتكون الأمور من حولنا بخير، من دون تلك الحاجة إلى المبالغة وأفعال التفضيل واستعراض سعادتنا

وتكاد ثقافة "التفكير الايجابي" واستنباط الفرح من صميم الحزن والانجاز من أحشاء الفشل تصبح من سمات هذا الزمن وروحه، حتى بات بلوغها هاجساً بذاته. هاجس يترافق مع حاجة ملحة أخرى لتقديم اثباتات وبراهين بأن قطار الـ "يوفوريا" لم يفتنا، في وقت ما عادت المسرات الصغيرة تكفينا.

 

هكذا ترانا نحكم على أنفسنا بالأمل، من دون أن نملك أدوات تبديد الاحباط.

فعلى عكس الزعم السائد، من ثقافة التسامح والقبول بالآخر وتعايش التنوع والاختلاف، تحولت السعادة إلى واجب أخلاقي ونتيجة حتمية لاستيفاء عدد من الشروط الموضوعية. فإن توفرت تلك الشروط لا بد أن يكون المرء سعيداً، وإلا أحيل تلقائياً إلى خانة "الجاحدين", و"الطماعين", ومن أصابهم بطر. وأكثر من ذلك، يحال من لم يستوف الشروط بالدرجة الاولى إلى خانة الفاشل والضعيف والعاجز، وهؤلاء بطبيعة الحال ممن تلفظهم جنة الناجحين السعداء.

 

وفي لهاثنا خلف السعادة أو مفهومنا المستجد عنها، لا نعرف حقيقة إن كنا نخلط بينها وبين الرضى عن النفس، أو القناعة أو الطمأنينة، أو القبول الاجتماعي، وعدد لا يقاس من المشاعر الايجابية الأخرى، التي قد لا تكون بالضرورة سعادة بهذا المعنى، ولكنها تقاربها، أو ربما تتفوق عليها.

 

كان ذات مرة غير بعيدة يكفي أن نكون على ما يرام، لتكون الأمور من حولنا بخير، من دون تلك الحاجة إلى المبالغة وأفعال التفضيل واستعراض سعادتنا وإثباتها لكل عابر سبيل.. وكان حينذاك مكان للحزن أيضاً. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.