شعار قسم مدونات

في كانون.. أحببت غيمة

المطر
أعواد ثقاب ومدفأة، قهوة ساخنة معدّة على منضدة، وعزلة مرجأة إلى إشعار آخر، اشتهيها كلما لاح طيفك كانون، أهازيج وألحان تدفئ بردك، أنغام تعلن النفير بقدوم شتاء وافر معك أيها العزيز، طقوس احتفاليّة بالقادم من الأيّام، هي الأعياد الموسميّة تطل معك وبك كانون. 

في كانون، يعود بي الحلم قليلا إلى كل البدايات والنهايات التي كانت بالأمس، فالمطر صديق متعب مثلي ، يهطل في مشهد ليس بحاجة لإضفاء لمسات أخيرة على لوحته، التي دائما أنظر إليها في مشهد رحيله، وخلف كواليس سفره بأنّه لوحة لم تكتمل.

فالمطر حكايات المساء، و حنين المتعبين من الحياة الى كلّ طقوس الشتاء، والمطر حيّز وفراغ، كلما رحل عنّا بحقائب الشتاء المثقلة لعام قادم، غرقت في فراغه، بل تراني كلما جاء، ملئت ذلك الحيّز بحياة تدفع بوهمي حتى يصبح حلما، ويغدو الحلم أجمل لقاء، يذكرني فيضه بعزمي أن أكون، ويغدقني قطرة بطعم آخر، يختزل وحدتي اختزالا، ويعبق بأنفي عطر ماض عابق بكل ذكريات الفقد، لأيامنا التي مضت، لحارتنا في ذلك الزمان التي انطوت، فأعود أدراجي بشوق الذكريات، بصوت الصمت فيّ المتكلّم بأنني نعم أشتاق.
 

يأتي كانون كغيمة أحببناها، ظللتنا، أمطرتنا، ثم رحلت، وأعتاد أن تتلوّن الحياة بألوانها المتعددة، وتتغيّر وتتبدّل بأثوابها المختلفة، فتتعاقب الفصول، ويقصر فيه اليوم ويسود فيه الصمت ويطول.

كلما لاح كانون، تخبرني بقدومه رائحة الشتاء القادم، وتنبؤني بعبقه الأخّاذ طقوسه المختبئة هناك، خلف السحب الخجلى في الظهور. فيعلن الخريف نهاية مراسمه فوق سحبه المسافرة في الأفق البعيد، حتى إذا لاحت غيماته، بللتنا بقطر لطيف، وروتنا بشغف شتاء دافئ قطره خفيف، فتبدأ المواسم تتعاقب، وترتسم مظاهر الشتاء فوق كل السطوح، وعلى كل الطرقات، وكأن الكون يتوضأ من طهر كانون.

فيه أعود لذاكرتي، فلقطر كانون حكايات أكاد أشتمها مع كل هبّات الأرض المبللة بذلك الطهر، أقلب أوراقي في الذاكرة، كما تقلّب الأرض الأوراق المبللة المتعطّشة لمخابئها الشتويّة، فتعود أدراجها في صمت مهيب، أعود لكل الشتاء وكل أوراق الذاكرة، لا شيء يشبه شيء، وهذا التغيير يشملني أنا أيضا.
يأتي كانون كغيمة أحببناها، ظللتنا، أمطرتنا، ثم رحلت، وأعتاد أن تتلوّن الحياة بألوانها المتعددة، وتتغيّر وتتبدّل بأثوابها المختلفة، فتتعاقب الفصول، ويقصر فيه اليوم ويسود فيه الصمت ويطول، عندها أؤكد ظنوني بتغيّر أكيد لمظاهر الحياة يوما فيوم، ولا شكّ أنني ها هنا بتّ أتغيّر.

يعلمني كانون شيئا ما عند قدومه، أن الأيام تمضي ونتغيّر كثيرا، فتكون حصيلة رحلتنا دروب، تجارب، قصص، وكثيرا من بعضنا المتغيّر ككانون يوما فيوم، فلا يبقى شيء على شيء، ولا يدوم حال على حال، والناتج هو عمر. بقايا ذكريات هرمة في مهالك الذاكرة، أطل عليها من شرفة عاشق للأيام، لما مضى من ندى عمر مضى، مع وريقات عام ماض، وآخر يطرق أبواب العمر منتشيا بالقدوم، هكذا هي السنون، وهكذا هي الأعوام، تذكرنا بأعمارنا، بأيامنا وذكرياتنا التي تعلق كالعبق المنتشر مع ندى الصباح، تتطاير فرحا بزهورالشتاء، وبرد الشتاء، وهدوء الشتاء، بل وقدسيّته التي يتربّع بها على أبواب قلوبنا وأعماق ذكرياتنا.

تطلّ يا كانون ببردك الحنون، وصوت رعدك وشعاع برقك، تضيء الأفق، في عرس موسميّ، وتبلل في شموخ عطش الديار، أشجار وأزهار، ومقل عطشى تنتظر وابلك، فتطلّ من نوافذها المنفتحة للقادم ،انها ترقب مواعيدك، بل وتطوف مع أقمارك، ليلك ونهارك، عيدك، رائحتك، التي تحاول أن تنتشي بها فرحا وألقا. وحدك يا كانون ستعلن بداية الصمت والسكون، ونهاية الغمّ والمقت المنبثق منذ سنين، أحلام عاشق للأيام، يمنّي أمانيه كل عام إذ تعود، فقطراتك ستغسل القلوب المحترقة، وستبلل شغف لهيبها ببردك، بلطفك وندى قطراتك، إنك أنت بلا شك كانون.

أحمل في داخلي أحلاما و قبل أن أنام، أسرّح خاطري في ذاكرة ما عادت تصلح للبيع، أو منعي من العودة والبوح دائما لذلك القلم، الذي وحده يرافقني، بأناقة كلمه و لباقة معناه! ماعدت وحدي أصفّق للراحلين مع الرياح. أحتاج المطر بكل تفاصيله، كي يغسل كل ألم، فهو البلسم و الصديق، والطريق التي ما إن سرت بها، حتى أعاود فيه الحياة من جديد، فيأخذني الحنين، و يبقى الأمل فيّ طالما يهطل فيك كانون قطرا وعبقا، يعيد لي في كل وقت طيب العناوين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.