شعار قسم مدونات

كن غريبا

way
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). محنة القلب مع الحنين لما فات وانقطع، يدفعه الحنين للأتي، فلا تقف على الأطلال باكيا ولا على ما حصلت مغترا، فما في هذه الدنيا إلا "فان وابن فان"، والذكريات مكانها القلوب فإن نزلت إلى الأرجل صارت ثقال سفن معوقة. 
 
ما تعطلت الإرادات إلا بالخوف على فوات ما في اليد شغفا به، مع نسيان أن ما هوآت هو أجمل وأفضل، فالعناء محتمل إن كان في النهاية غنيمة وراحة، وشعثاء السفر غبار زائل تذهبه غسلة ماء واضطجاع جنب الحبيب المنتظر ثم يعود مجرد ذكرى. الباكون الحريصون على "منجزات" دعوتهم وجهادهم وأعمالهم وقد اطمأنوا إليها وتلاءموا معها (فطال عليهم الأمد) في ظلها فبردت جنوبهم إليها واهمون، فما هي إلا دنيا ذابلة، مع أن الطريق طويل والواجبات أمامهم، لكنه جهل "الإقامة" في ظل شجر بارد موقوت.

لا ترهق بماض، ولا يثقلك حاضر، ولا ينقطع أملك. إياك أن تظن أنك ضيعت وقتا أو جهادا في مكان ما، فتقول: عملت هنا فلم أقطف، وبنيت هناك ولم أقم.

الهجرة حال دائم، واتخاذ الضيعة مرغب بالإقامة فكيف يلتقيان؟! فالمهاجر متخفف، حامل لمتاعه دوما، أينما سمع هدفه طار إليه، أو واحة علم طارت نفسه لها شعاعا، فكيف لعالم أو مجاهد أن يقيم والهيعات كثيرة والواحات دونها بيد. "الأغراب" هم المميزين في أزمانهم، في رحلتهم مع المعالي، وبخطأ يقترفونه دوما، هو محاولة الإقتراب من هذه الأزمان، واجتناب دنياهم، فتزداد الألام ويحصل الإفتراق، وحينها يكون المرض، ومع العابدين تكون "الغربة" علاجا، فبينهم وبين أزمانهم علاقة يعرفون أنها "عابرة" لا تقيم، وأنها "غريبة" لا تتأقلم، يربطها الحنين إلى ما هو آت من الجنان ولقاء الرحمن، وإلا فحدثوني عن أئمة الزمان من الرسل وأتباعهم، كيف قدروا أن يحتملوا جهالات عصرهم؟ وظلم قومهم؟ وضعف همم الخلق عموما؟

اجعل بينك وبين كل شيء في هذه الدنيا مسافة في عقلك وقلبك ونفسك، لأن الأروح لها إن فارقته، وأنت لابد مفارقه، أو مفارقك، فالتعلق في الدنيا رأس الخطايا، وإن أول معصية في الأرض بين أبناء أدم عليه السلام إنما كانت بسببها، والتنافس عليها، إذ يتصور الإنسان واهما أنه لا يمكن أن يعيش بدون هذا الشيء من أشياء الدنيا، فيغلبه الهاجس المرضي كمجنون ليلى! ويسيطر هذا الشيء على روحه حتى تشربه كما أشرب بنو إسرائيل العجل، مع أنه لو تفكر قليلا لعلم أن الكثير من الناس يعيشون بدونه، وهم في استغناء عنه، وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنى وأنه ليس بكثرة العرض، ولكنه غنى النفس.

"الاغتراب" للعابد العالم ليس مرضا ولا رهقا يحمله، بل هو اختيار عقلي وقلبي، فهو ليس مقهورا بزمن، ولا بوطن، ولا بعرض فيهما، بل الزمن بالنسبة إليه رحلة عمل، فلا تشغله اللحظة إلا بمقدار ما ينجز فيها من عبادة، فهو يسبح ربه ويسجد له، ويجاهد فيه ويزداد فيه علماوبصيرة، حينها يصبح الزمن هاربا وهو يلاحقه، لا حملا ثقيلا يرهقه وهو يهرب منه، وأما "الوطن" حيث حلت فيه أول تعاويذه فبالنسبة إليه رحلة ذكرى لوطن قادم فينتظره، له فيه أهل هم ينتظرونه كذلك، فهو عابر سبيل ينظر ولا يحمل، ويتأمل ولا يثقل، ويلمس لكن رجله في الغرز سائرة لا تقيم.غريب أو عابر سبيل: غريب حاضرك مع الدنيا، عابر سبيل مستقبلك إلى الأخرة. غريب في ما أنجزت مع الدنيا، عابر سبيل إلى واجبك الذي هو أت.

وهكذا تتواصل الرحلة، لا ترهق بماض، ولا يثقلك حاضر، ولا ينقطع أملك. إياك أن تظن أنك ضيعت وقتا أو جهادا في مكان ما، فتقول: عملت هنا فلم أقطف، وبنيت هناك ولم أقم، فهذه الدنيا مسارح عجيبة، فقد زرع رسول الله ثلاثة عشر عاما في مكة، وكانت الثمار في المدينة، ورمى علماء كثر البذر في أرض، فحملتها رياح البركة إلى أرض أخرى وزمن أخر، فها هو ابن تيمية ينبت بذره الأن شجرا مثمرا عاليا، وها هو سيد قطب تجنى غراسه بعد موته، وتفكر في إبراهيم عليه السلام وهو ينادي (و أذن في النّاس بالحج) في أرض قفرة، صحراء لا زرع ولا ماء، فأسمع الله الخلق أذانه واستجابت له أمم لا يعلمها إلا الله بعده.

وها هي العيون تشرئب إلى ذرية إسحق والأسباط، والعين تكاد تميل عن هذا الرضيع وأمه في البيداء، إسماعيل وأمه هاجر، ولكن كان لكلمة الغيب فصل أخر، فالخير لا يضيع "أحصاه الله ونسوه"، فلا عليك أن لا تحصيه وهو في يد الله تعالى التي تنميه رحمة وقبولا.

اهتم بنفسك أن تكون غريبا أو عابر سبيل، وأما شأن الأرض فهو فعل الرب: (فأما الزبد فيذهب جفاءاً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.