شعار قسم مدونات

الحديقة الضائعة (2)

blogs - Syria Woman man

لم نخطئ في الوطن، ولكنّا والحقّ يُقال، والاعتراف فضيلة المذنب، فشلنا في تجنّب سيرة الفلسطينيّ، كما أخفق الفلسطينيّ في وقاية نفسه من سيرة الهنديّ الأحمر. واليوم نحدّق في النهر كما فعلت تلك العجوز الهنديّة من شعب هيداستا في نظرها في نهر الميزوري العظيم، رأت أخيلة رجالهم وسمعة جلبة المقاتلين، قهقهات الأطفال وابتسامات النسوة، وظنّت أنّ شيئًا لم يحدث، لكنّ صمتًا مالحًا هزّ وهمها، لن يعود همس نادي المساء لأهل القرية، لقد انتهت سيرتهم. ليس الوطنُ اليوم مستحيلًا، ولا غير ممكن، نظريًا يبدو خلاف ذلك، لكنّه بعيد، بعيدٌ جدًّا، شَرَفًا أو شرفين للسائر، إنّه أقرب من سراب بقيعة في نظر الظمآن.

 

(4)

في تلك الفترة ازدادت نوبات شرودي تواترًا ومدّة، وكانت قد بدأت بدءًا مخاتلًا خلسيًّا، ولم يكن ما يؤرقّني فعلًا النوبات بحدّ ذاتها، لكنّ بحثي عن العلّة المستبطنة كان يخفق في إيجاد السبب، ثمّة ولا شك وقتئذ عوامل كثيرة قادمة من ماضٍ قريب متلاش كظلال يبددها ظلام خافت، ومن حاضر متفاقم مشبع بعوامل الانهيار، غير أنّها لم تكن لتشكل في مجملها تفسيرًا مقنعًا، فهي ليست صدمات قويّة ومباشرة يمكن الوعي بها جاهزة دون فلسفة الأمر، وإن افترضت أنّها تشرح الحالة عينها، فهي لا تشرح تفاقمها بكل تأكيد. ولم يكن ليخطر لي أنّ العلة كامنة في ما قد وقع في المستقبل، فيما كنّا نمضي إليه قدمًا، وأنّها كانت أهبة وتأهبًّا.

 

لم يكن صمت التسعينات، طبيعته وشدّته، لينتهي إلّا بموت حافظ، ولم يكن أحد ينتظر إلّا هذا الموت منظورًا لإمكانية التفوّه، وكانت تسري شائعات تعجّل موته بسرطان الدمّ والعلاج الكيمياويّ وما أشبه كلّ حين

جلوسًا وصحبي في ظلّ العريشة في أمسية على إحدى قمم جبل التركمان المنخفضة نسبيًّا، في وقتٍ من عام 2006م، وكان الضباب قدّ حلّ مع الليل كرذاذ الحليب البارد في ضوء القمر المحدّق في الجبال العالية والوديان العميقة كأنّه عين مفقوءة، وتحت مستوى الضباب المضاء جيّدًا عتمة معتدلة، وفوقها على أعالي الشجيرة يسيل النور حتى قعر الوادي حيث ينسّل الكبير الشمالي بصمت كأنّه افعوان. الدار وبستان اللوز والعشب الفوضويّ والبركة، حيث استضافنا صديقنا التركمانيّ الكريم، كانت أشبه بمنعزل اختياريّ فاتن بالنسبة لي، يوقظني في منتصف الليل صمتٌ عميق له نسبٌ أظنّ بإحدى البحار العالية، وينيمني، ومن يومها وأنا أفهم النوم كموقف مناسب من الحياة، مذهب، كهروب من يقظة مضنية ولا جدوى منها، كحالة مرافقة للشرود البدئيّ مجهول السبب، آنذاك على الأقلّ.

 

يومها كانت العلاقات مع تركيا قد بدأت تزدهر، وأزمة نظام الأسد الابن أخذت تنفرج بفضل أسباب كثيرة، منها هذه العلاقة والوساطة وما تُحدّث به عن محادثات مع اسرائيل، أسباب ثانوية لتلك الميّزات البنيويّة والوظيفية بالغة الحساسيّة التي رسّخها على حساب موقع سوريا ووجود شعبها. وكان لهذا التغيّر انعكاس واضح على التجارة والسياحة، حيث حدث لاحقًا ما بين عامي 2006م و2010م تبدل مضطرب في أوضاع مدينة حلب الصناعيّة التجاريّة، يرضي فئة أو طبقة ويسخط أخرى، ورافق ذلك زيارات متكررة لبشار للمدينة ومكوث، خلافًا لأبيه الذي أهمل حلب سياسيًّا، وكذلك زيارات لرئيس وزراء تركيا للمدينة.

 

السوريّ شخص لا يسافر للسياحة، ولا يسافر عمومًا ولا يهاجر، وأقصد هنا السوري العادي، وهذا يمثل الأغلبية الساحقة بلا ريب، وهو لا يزور في المعتاد حتى العواصم المجاورة مثل بيروت وعمّان، وبالنسبة له كانت تركيا قبل ذلك كما لو أنّها غير موجودة إطلاقًا، وليست جوارًا، إلّا كاحتلال عثماني في كتب التاريخ المدرسيّة، وحملات مشانق نفذها جمال باشا في أخوة التراب، وذلك ما عدا فئات وأشخاص لهم علاقات قربى ونسب وتاريخ وجغرافيا، كالكرد والتركمان، أو مصالح قديمة جديدة لبعض العائلات.

 

لكن في تلك الفترة تزايد اهتمام الناس بتركيا كما لو أنّه تمّ اكتشافها للتوّ، تكلموا عن بلد جميل ومسلم، وسياحته ذات اسعار مقبولة جدًّا، وكثير من الشباب ميسور الحال وأقلّ من الميسور احتفل بزواجه في اسطنبول، وبعض من مجموعات صداقات الشباب الجامعيّ صارت تخطط لرحلات قصيرة لتركيا، هذا لم يكن مألوفًا بتاتًا، كان قبل ذلك نوعان من السفر أو الهجرة الشائعة، تعيسو الحظّ من الشباب والكهول إلى لبنان ليعملوا في أعمال البناء ممّا يسد القوت، وسعيدو الحظّ إلى الخليج، ممّا ينهض بالحال. وسفر السياحة إلى لبنان معروف لكنّه قليل وضيّق ومحصور بفئات ومناطق أكثر من غيرها، وسفر السياحة الدينيّة إلى الحرمين موسميّ مشهور وكثير.

 

كان صديقنا التركمانيّ يحدثنا عن هذه التركيا بعين متألقة، كما لو أنّ نسبه إليها أقرب، وكان لديه أمل أن يتابع تخصصّه فيها، وكلمنا عن تسهيلات تمنح لهم، وعن نسبيّة عائق اللغة، حيث يمكنه بسرعة التأقلم مع التغاير الآخر لهذا النسب من اللغات.

 

وبطبيعة الحال، لم يكن الحديث عن الفارق السياسيّ ليخطر لنا على بال، إلّا من جانب بلد قويّ وبلد ضعيف، أو بلد ثريّ وبلد فقير، وبلد فيه حريّة واحترام وبلد ليس فيه لا حريّة ولا احترام، وبلد متطوّر وبلد غير متطوّر، وهذا شأنه شأن التكلم في السياسيّ، أو الصمت عن السياسيّ بالأحرى في كلّ مجال، وذلك عند الحديث عن الشائع. وأعني على وجه أكثر دقّة، لم يكن التفكير بفروق الأنظمة السياسيّة وعوامل النهوض والازدهار الاقتصاديّ والاجتماعيّ تفكيرًا مركبًا، ومفيدًا للوعي بحالتنا وبالإشكالات التي قد تعترضنا مثلًا لو حدث تحوّل أو اضطراب -ربّما يكون التفكير مؤسسًا لشعور بالحقد أو الكره للوضع القائم-، وذلك حتى عند الشباب المهتم بالسياسة، ولم يكن من جانب آخر هناك تواصل معتبر مع مختصين معارضين، حيث لا يوجد أي وسط أو قنوات سياسيّة ذات بال.

 

دومًا بالنسبة لي يشكل النظر للوراء حالة مريبة ومخيفة، مشهدًا غامقًا لا ملامح له، أو ملامحه جافّة عابسة، يبددها تجّهم مكروه

الاهتمام الأكبر كان يوجه كمشاعر غامضة وشعارات عامة، تحتها بعض الجدل المتفاوت في السياسيّ، اهتمام موضوعه على نحو شائع القضيّة الفلسطينيّة والصراع مع العدو الصهيونيّ، وهذا الاهتمام لا يعكس وعيًا سياسيًّا عميقًا بتركيب هذه القضيّة، ولا إخلاصًا عقائديًّا مثمرًا عمليًّا حاضرًا مستقبلًا إن وقع شئ، وليس ثمة فهم لتشابكها مع أوضاعنا العربيّة والمحليّة، كما أنّه اهتمام مختلف الدافع على نحو متزايد، فمثلًا في أيام الانتفاضة الثانية كان واضحًا لي في الثانويّة النفس الاسلاميّ لهذا الاهتمام بين الشباب، وكان النقاش من هذا الجانب مختلف وجديد بأكثر من معيار، وهذا ظلّ يتزايد في أوساط الشباب، مع عوامل لاحقة ومرافقة حاسمة فرضت على الناس والشباب الاشتباك بها، أعني غزو العراق وسقوط بغداد، وصعود المقاومة والجهاديّة في ذلك البلد، وسريان نشاط بني على تفاعلات ذات طبيعة مركبة بهذه القضيّة، دينيّة وعروبيّة، جوار وقربى، هجرة مليونيّة للعراقيين إلى سوريا، واستثمار نظام الأسد في الجهاديّة والجهاديّين، خطابيًّا (مدح كونه يدعم "مقاومة" العراق) ومخابراتيًّا، حيث سمعنا وشهدنا وتحدثنا عن أخبار الشباب السوريّ، والعربيّ والمسلم العابر، ممن اعتقل واطلق في البوكمال تحديدًا، والتقينا بمن حضر معسكرات تدريب في اللاذقيّة، وبمن هاجر للعراق وعاد، وبمن لم يعد.

 

ثمّ جدليّة الاغتيالات في لبنان، وقضيّة الحريري، وحرب لبنان، وحزب الله اللبنانيّ الشيعيّ، والذي أخذ بالمقارنة مع حالة الصمت عن السياسيّ حيّزًا مهمًّا من النقاش، لا سيما وأنّه ترافق مع حديث مشبوه مقلق، ومع مشاهدات، لانتشار النفوذ الإيرانيّ والتشيّع المموّل أو غير المموّل. نشط عدد متزايد من الشباب في الجامعات، سيما في دمشق، لمقاومة أفكار التشيّع وأفكار "العلمنة" -التي تتوجّه لمسائل الجندر والنسويّة عبر مسار اسماء الأسد- على حدّ سواء. وكان ينقل في ذلك -مناقشة المائلة قلوبهم لـ"أهل البيت"- نجاحات واخفاقات "الشباب الجريء".

 

 ومن ثمّ صعود حماس في غزّة بالانتخابات، وكلّ ما أعقب ذلك من جدل عن الإسلاميين و"الانقلاب" عليهم إذا وصلوا الحكم "بجدارة". وممّا أنا لست منه في شكّ أنّ جملة هذه المتغيّرات، مع حراك ما يسمّى ربيع دمشق، والذي كان وظلّ وقتها بؤريًّا نخبويًّا في تحركه وفي تأثيره الأقوى، والأهمّ مع جملة المتغيرات المعيشيّة والاقتصاديّة؛ جملة ذلك كلّه قد غيّرت طبيعة الصمت، وعلى نحو فارق وحاسم.

 

لم يكن صمت التسعينات، طبيعته وشدّته، لينتهي إلّا بموت حافظ، ولم يكن أحد ينتظر إلّا هذا الموت منظورًا لإمكانية التفوّه، وكانت تسري شائعات تعجّل موته بسرطان الدمّ والعلاج الكيمياويّ وما أشبه كلّ حين. وكان لهذا الموت المضبوط على بداية الألفيّة أثر الزناد في إطلاق سلسلة من التغيرات، وسلسلة من الأحداث، وسلسلة من الأقاويل، لم يخترها النظام تمامًا، ولم تختره بالضرورة. وبالمجمل تغير الصمت مع الوقت، وإن كان لصالح "كلام متطاير" ومبعثر ومتلعثم، كلام متشتت وتهتهة، كأنّه هذيان الصحيان من تخدير عميق بدواء مهلّس، غير قادر بالجملة على انتاج معنى وحركة، وأعني أكثر الكلام السياسيّ. وهو صمت انتقائيّ على قسريّ، تقلّ بؤره على نحو متزايد، وينسحب من البيت أكثر، ويخرج نوعًا ما عن المجموعة الموثوقة، فقد شهدنا نقاشات مع "علويّين" في قضايا ما كان للمرء في التسعينات أن يهجس بها، وخضنا نقاشات "حساسة" في معسكرات وتجمعات الطلبة وغيرها، وسمعنا عبر الفضائيّات، التي دشّن دخولها الفعليّ تغطية مراسم تشييع الأسد الأب، وتوريث السلطة؛ سمعنا عن ربيع وما شابه، وأمّا النقاشات على هامش حرب تموّز 2006م فهي علامة فارقة مبكّرة برأيي في الوعي بحدوث تآكل سوريا لصالح طائفة ومذهب، وتآكل وسائل الضبط القديمة والموروثة بأسرع من تطوير أخرى حديثة.

 

5)

هنا للصمت نكهة أخرى، كسل الشتاء والصبيحة، وخدر أعصاب الأطراف على دفء قليل، مجال مواز يترعرع فيه النسيان اللطيف العسليّ بنكهة اللوتس، وتنمو فيه لا مبالاة ضرورية للاستمرار ولاسترواح الهواء

في تلك الأمسية البراقة الربيعيّة، أطلنا النظر نحو الحدود التركيّة، وعنّي فكرت ماذا يوجد من عالم خارج سوريا. دومًا بالنسبة لي يشكل النظر للوراء حالة مريبة ومخيفة، مشهدًا غامقًا لا ملامح له، أو ملامحه جافّة عابسة، يبددها تجّهم مكروه. تمشيّنا مع الليل في طرقات أشبه بأخاديد في الغابات، منعرجات ومنحدرات حوافّها شجيرات صغيرة ذات طلع ككريات حمر، تحت مستوى ضوء القمر الذي يبددّه ضباب لم ينجل، العتمة كالصمت، فكّرت، أمان الخائف الطريد، ووسط خوفه وجفلته، ولكن خلافًا للصمت، ليس ثمّة علاقة ثابتة بين العتمة والموت، إذا حضر الموت حضر الصمت، وليس هذا هو الحال مع العتمة.  والعتمة بيئة مساواة لأبي تمّام، وهي غياب اللون أو تقشّفه، أو غناه وحيرته بين الأخضر الداكن والأسود والرماديّ والأزرق الداكن، هذا ما فهمته من لون الكبير الشماليّ الملتصق بالأرض، ولون الشجرة والتربة وخلل الفرلّق. العتمة قلت في نفسي هي لون دم الليل، وأمّا الظلمة فهي هيئته.
 

في الليلة اللاحقة حضرنا الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه وسلّم في مسجد الضيعة، الأناشيد كانت بلغة تركمانيّة تتخللها عبارات عربيّة للضرورة، تذكرنا بعلاقة محببة لأنفسنا بين لغتنا وثقافات لغات أخرى، وتبدد جانبًا من ثقل النقاش مع الاصدقاء يومها عن بلادة التعريب البعثيّ لأسماء تلك القرى، حيث حدّثنا صديقنا عن رفض أهل القرية للاسم العربيّ المفروض على قريتهم.

 

ظهر كلّ شيء بسيطًا وصافيًا ومريحًا، يوقظ في الروح نزعتها الصوفيّة الأصيلة. ثمّ اجتمعت القريّة كاملة في الطريق قرب المسجد على طعام العشاء، النساء على جانب والرجال على جانب، الطعام كان ادامًا منه الأحمر ومن الأصفر، وفيه كرات لحم ضأن ذبح للاحتفال، لقد قدّمنا أهل القرية بكرم وحب بالغين لا يمكن أن أنساهما، ولا يمكن إلّا أن يذكّرا بطيب العيش في المجتمعات التكافليّة الصغيرة، وكان هذا المعنى واضحًا في تقاسيم القرية، بيوتها، وبساتينها، ووسائل العيش الهجينة بين قديم بسيط وآخر حديث نافر معقّد. الصباح يكشف عن بيوت كأنّها أعشاش نحل مرتبة معلقة على سفح الجبل، وبينها درجات واسعة يقوم كلّ صاحب بيت بإعدادها بتعب السنين، لتهيئة المكان لزراعة أشجار الفاكهة المتنوعة، الحمضيّات واللوزيات والأعناب وغيرها، وبعض الورود والأركيد. وقربها يوجد حطب مجهز لبرد الشتاء وليليّ الربيع والخريف، يعطي احتراقه في مدافئ مكعبة رائحة محببّة، حيث يسري الدفء في المكان مع طقطقة الحطب المحترق، ونكهة ابريق الشاي. هنا للصمت نكهة أخرى، كسل الشتاء والصبيحة، وخدر اعصاب الأطراف على دفء قليل، مجال مواز يترعرع فيه النسيان اللطيف العسليّ بنكهة اللوتس، وتنمو فيه لا مبالاة ضرورية للاستمرار ولاسترواح الهواء، كما ينمو العشب القصير الكثيف الداكن على صخور تلك الجبال، وعلى جدران الحيطان المنخفضة التي تفصل الملكيّة، وعلى بقايا الصوت في مسرح مذبحة نديّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.