شعار قسم مدونات

ذاكرة جريح في حلب

BLOGS- سوريا
كانت الأيام الأخيرة أشبه بخيالات طفلٍ يحدثونه عن أهوال يوم القيامة، تناقض واقعي نعيشه بين الساعة والأخرى، لا شيء يتغير سوى موعد المجهول المنتظر، الموت هنا ببرميل يهوي على أجسادنا الممزقة أو موت في طريق الخلاص، أو موت آخر ينتظرنا اذا ما أقلتنا الحافلة خارج هذه الديار.

تقاسمت نظراتي بين جرحى المغطى بقماشٍ أخذوه من بقايا مخدةٍ ربما كانت لعروس خذلها الزمان، ومراتٍ عدة أحاول رؤية السماء تلك التي قالوا فيها عدالة لا تعرفها قوانين الأرض والإنسان، يحاول صديقي أن يخفف عني وطأة الحدث وعبثاً يُخفي دموعه المستمرة لكن هذه المرة كانت لأجل زوجته وطفله المولود منذ شهرين ترك أجسادهما تحت أنقاض "خربته" التي يسميها منزل العائلة فقد استشهدا مع بضع جيرانه بسقوط برميلٍ قبل أسبوعين تقريباً من موعد فجيعتنا، ربما هم أكثر حظاً فأجسادهم وإن غادرتها الأرواح سوف تبقى في هذا الدمار، أمّا نحن سنخرج أرواحاً مع بقايا أشلاء متلاصقة.

حاولت أن أفهم تعابير وجه (القائد العسكري) الذي جاء يُخبرني أن أول المغادرين سوف نكون نحن (الجرحى)، قالها وابتسامة ملحوظة طبعها على شفتيه، كأنّه يلقي بشرى لا يتسع الزمان لمكانها، وخشية أن أحرمه نشوة اندفاعه تمتمت بكلماتٍ مبعثرة كما هي الأشياء حولي بعضها ممزقة وأخرى رحلت دون وداع أو وصيةٍ فهذه الأمور تحدث في الغياب الاعتيادي. قلت له: وماذا عنكم؟ قال: (إلنا الله نحن من بعدكم طالعين إن شاء الله) ربما لم يكن جوابه مقنع حتى لنفسه وربما كان يتوهم أن هذه الأمنية المرة ستصير حقيقةً بعد ساعات أو أيام معدودات.

كرهت موعد الوصول وجموع الناس المنتظرة، كانت أشحت ببصري أبعد من تواجدهم، نحو تلك البقع التي يدعونها (محررة)، تمنيت لو أنّ القوة تسعفني لأصرخ فيهم،

وفي ساحة التجمع حيث المحشر الدنيوي كان المشهد مزدحماً يصعب معه تمييز الأشياء والأشخاص الذين حملوا فتات ما ملكوا، لم يكن المهم فيما يحملون بل كان الأهم أن يبقى شيئاً يقتنونه معهم يذكرهم بصمود جدرانهم وصلابة الأجساد فوق تهشم الأرض تحتهم، وحتى منظر الخراب لم يمنعهم من إبقاء كلمات تغيض عدوهم ومحتل أرضهم وتبعث بالأمل المنشود اذا ما شاهدوها يوماً على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لعلهم أدركوا وقتها أن الخراب لن يفنى سيقاوم بعد رحيلهم، اقتربت مني "سارة" طفلة حلبية لم تتجاوز السادسة من عمرها كسى السواد لباسها وشعاع الأنوثة والطفولة إلا من بريق يتعاجز أن يخرج من عيناها أحياناً، حاولت أن استجمع شتاتي وألملم بقايا رجولتي قبل أن تختبرني هذه الطفلة بأي سؤال أو استفسار، (شد حيلك) قالتها وكأنها صفعت تلعثمي وحاولت إيقاظي من سباتي المشؤوم، لعلّها أدركت أنّ الانهزام يعتريني وأن اليأس يقض مضجعي وأني بتّ لا أملك لأمري شيئاً.
يا طفلتي أنا غائر بين الحنين والوجع !!

خطوات ليست بالكثيرة كانت تبعدني عن مزرعة في فناء مسجد اتخذناها مقبرة في الأسابيع الأخيرة، وضمت رفات أصدقائي، لن أفوت الفرصة في وداعٍ أخير ولكن الخوف من عتب يخرج من تحت الحجارة المتكومة فوق قبورهم، لن أحدثهم ولن أحدث نفسي أمامهم، مازالت أصواتهم تجول في ذاكرتي الرطبة وفكاهات بعضهم لم تبرح مكانها في ذاتي، سامحوني لن أقوى على الوعد من جديد خذلتكم بعد أن خذلتموني ورحلتم.

كل ساعة تمر في هذا المشهد تأخذ جزء من كياني، ويتناقص معها الشعور بأي شيء، كم أنّا بحاجة لتكون مشاهد فلم "إكويليبريوم" Equilibrium حاضرةً معي، لعلّا تنزع الذكريات وتبقيني
وضعوني في سيارة إسعاف بجوار جريحٍ بُترت ساقه اليمنى، سألته بتهكم ومزاح، أين ذهبت ساقك؟ لم ينتظر كثيراً حتى يتعرف على مصدر الصوت، قال: (لقد سبقتني إلى الجنة)، يا الله أيّ يقين هذا اللي الذي زرعته في نفوس المقاومين، شعرت حينها بنشوة من أمان وأنا بجواره، وبدأت السيارة تتحرك ضمن الرتل ببطء.

لن نكمل من دونك، سنغسل عنك لوثهم وعهرهم، ورجاءنا برب العالمين أكبر.

لم تمض دقائق حتى بان لنا حشد كبير من العسكر والعلم يدلل عليهم، وهتافات نصرهم المزعوم تصل بعيداً لكن ليس أبعد من أملنا، حاولت ألا أنظر في وجوههم يكفيني ما حملت في ذاكرتي من منظر خراب ودمار، توقفنا عدة مرات لأسباب مختلفة وفي كل مرة تتوقف معها الأفكار وتتحول إلى هواجس مقيتة، في أكثر من مرة كنت قريباً من الموت أبعد عنه ثواني أو خطوات بسيطة، لم ينتابني هذا الشعور من الانكسار والذل مثل ما حدث اليوم حين كنت قريباً منهم، هم اسوء من الموت و لا شيء أسوء بعدهم.

كرهت موعد الوصول وجموع الناس المنتظرة، كانت أعينهم تتابع كل حركاتنا، أشحت ببصري أبعد من تواجدهم، نحو تلك البقع التي يدعونها (محررة)، تمنيت لو أنّ القوة تسعفني لأصرخ فيهم، وأخرج الحنق الذي بداخلي، قاطعني أحدهم يقدم لي قارورة ماء وتذكرت حينها مقولة والدي "تأدب مع أهل الكرم اذا أكرموك"، يا والدي أنا لست متسولاً أنتظر كرمهم، أنا أصرخ لأجلهم فألسنتهم عُقدت مع رباط القماش على جرحي.

ساعات طويلة مرت وأنا راقد على سرير في النقطة الطبية لا أتمنى لقاء أحد، ولا أستمع كثيراً للزوار الذين يتباركون (كما يدعون) بالجلوس معنا، أحدث نفسي أن اللقاء قريب يا مدينة الشهباء، سنعود لأن الوعد ماضي، لن نكمل من دونك، سنغسل عنك لوثهم وعهرهم، ورجاءنا برب العالمين أكبر
إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجونَ مِنَ اللَّهِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.