شعار قسم مدونات

كان ياما كان.. 25 يناير

blogs - Egypt Revolution

في غرفة الجلوس في بيتي البيروتي، صورة كبيرة معلقة على الحائط ضمن إطار رفيع أسود، كتب عليها بالخط الاحمر العريض "الشعب أسقط النظام".

 

إنها صحيفة الأهرام المصرية التي طبعت تلك المانشيت فوق شارة الأهرام مع صورة هائلة لشاب مبسوط اليدين وخلفه حشد وأعلام مرفرفة يوم تنحى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. وهو تقليد "استثنائي" درجت عليه الأهرام للدلالة على فداحة الحدث وضخامته فتعليه على شارتها. تحت الصورة كتب "شباب مصر أجبر مبارك على الرحيل". نعم حدث ذلك فعلاً. كما في تونس، كذلك في مصر.

 

أكاد أستسلم اليوم وأنا أكتب هذه السطور، لرجفة اليدين وتسارع دقات القلب والدموع نفسها التي تغلبت علي يوم وصلتني نسخة من الصحيفة من مصر.

 

أصر على تذكيري بأن الصحيفة التي بين يديه عمرها أقل من شهر. طمأنته إنها ذات يوم ستصبح قديمة.. وسيكون لها قيمة معنوية كبيرة، وخرجت

طلبت آنذاك من صديقتي أمينة أن ترسل لي نسخة من الصحيفة إلى بيروت، فإذا بها تصلني في البريد المضمون والسريع، حاملة معها كماً من الملصقات والشرائط و"غادجيت" الثورة. ألصقت الشعارات في كل مكان في المنزل، ورافقتها ببعض ما وردني من تونس أيضاً، وبات كل من يزورني يبادر إلى القاء التحية بالقول "ثورة ثورة حتى النصر" فنضحك.

 

الدموع والقشعريرة التي لم تفارقني وبضعة أصدقاء لوقت من الزمن. كنا تحلقنا حول الشاشة منذ اليوم الأول لانطلاق الشرارة ونزول الناس إلى شوارع القاهرة وميدانيها وهم يهتفون بصوت واحد وقلب واحد. رافقناهم لحظة بلحظة، شعرنا إننا لوهلة مثلهم، وأننا بدورنا أبناء وبنات أم الدنيا. رحنا نتابعهم وهم ينصبون الخيم ويتكاتفون شباناً وبنات، ثم يواجهون المخبرين والبلطجية معاً. لهجتنا اليومية باتت مطعمة بالمصرية وبكلمات مفتاحية خرجت لتوها من ميدان التحرير.

 

أصدقاء لي حجزوا تذاكر سريعة وطاروا إلى القاهرة. قالوا إنهم لا يريدون أن يفوتوا تلك اللحظة التاريخية. راحوا يرسلون الصورة تلو الأخرى عن زخم لم نعتقد أن جيلنا سيعيش يوماً ليشهد مثله. وباتت "مصر يمه يا بهية" اسمنا الثلاثي على "فايسبوك" الذي لم يكن مستهلكاً لهذه الدرجة بعد.

 

ثم كلما دارت ملاحقة بين المتظاهرين والأمن والبلطجية ترانا رفعنا صوت أغنية الشيخ إمام "أطلق كلابك في الشوارع". وإذا ما سمعناها في السيارة خلال نزهات المساء على الكورنيش، جعلنا الصوت يخترق الفضاء ورافقناه بصياح أصواتنا لدى جملة "عمال وفلاحين وطلبة…".

 

استيقظ في داخلي يسار كامن. يسار عميق، ومتجذر لكنه يدخل في سبات طويل أحياناً. ليعود ويستيقظ عند هتاف "عيش حرية عدالة اجتماعية". فيعود وينام.. وهكذا دواليك.

 

"عيش حرية عدالة اجتماعية"، "مصري وأفتخر" أو ببساطة "ارحل".. ليست الشعارات السياسية الجادة وحدها ما طبع تلك الأيام ولكن أيضاً كمية هائلة من الضحك والتفاؤل والرومانسية والإيمان بقدرة الناس العاديين على التغيير.

 

لن أنسى صورة ذلك الرجل الذي يحمل لافتة تقول "ارحل بقى ايدي وجعتني" أو "ارحل أم العيال بتناديني"، أو مثلاً "فايسبوك على كل ظالم" و "من يخاف تويتر".

 

وحين دخل الإخوان والسلفيون والتيارات الإسلامية على خط الثورة بشكل واضح وصريح، انتشر إعلان ضاحك عن تلك اللقاءات "الجامعة" لكافة التيارات الفكرية في مقهى "كوستا" يقول: "سلفيو كوستا.. احنا لي منحاسب ع المشاريب". وفي ذلك غمز واضح من قناة اليساريين "الطفرانين" غالباً.

 

في الواقع تذكرت الإعلان بالأمس أيضاً حين قيل في بيروت أنه تم إحباط عملية انتحارية في فرع لمقهى "كوستا" وسط شارع الحمرا. راجت أيضاً كمية هائلة من النكات ومنها إنه "أول انتحاري ضد الكافيين وليس الكحول". لكن الغريب أن قصة "سلفيو كوستا" بدت غائرة في الزمن وبعيدة بعد القاهرة عن بيروت اليوم.

 

استيقظ في داخلي يسار كامن. يسار عميق، ومتجذر لكنه يدخل في سبات طويل أحياناً. ليعود ويستيقظ عند هتاف "عيش حرية عدالة اجتماعية". فيعود وينام.. وهكذا دواليك

المهم أنني أخذت الصحيفة، وتوجهت إلى محل متخصص بصنع الاطارات في منطقة برج حمود ذات الغالبية الأرمنية. وضعت الأهرام على المنضدة، أمام صاحب المحل الذي سبق واستعنت بخدماته لتأطير لوحات فعلية لم ترق كثيراً له، وقلت بثقة "أريد إطاراً يليق بها". احتار لبرهة ثم أثنى على ذوقي "المميز"، وراح يردد بصوت منخفض وشبه ضاحك "مش قليل.. مش قليل" رافعاً سبابته قليلاً في وجهي. تمتمت شيئاً من قبيل أنني أحب جمع الصحف والمجلات القديمة والاحتفاظ بها، مثلما هناك من يحب جمع الطوابع. تفهم الوضع ولكنه أصر على تذكيري بأن الصحيفة التي بين يديه عمرها أقل من شهر. طمأنته إنها ذات يوم ستصبح قديمة.. وسيكون لها قيمة معنوية كبيرة، وخرجت.

 

لم أتوقع طبعاً أن يأتي ذلك اليوم بهذه السرعة. فبغمضة عين، بدأت تضاف إلى اللوحة التي زينت حائطي ملصقات أخرى تقول "لا لحكم العسكر"، و "لا لمحاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية"، و"كلنا مينا"، وغيرها. وسريعاً جداً أيضاً أضيفت لها تلك الشعارات القادمة من سوريا والتي تتراوح بين المرارة والضحك والبكاء. وكانت مجموعة من الناشطين بدأت توثقها ضمن "سلسلة شعارات راسخات"، حفظت لحظات سعيدة وأخرى حزينة من مسار بدا ذات يوم واعداً. هكذا مثلاً تجد بينها "والله لنكيف"، أو "وحياة شواربك وصرامي الحاضرين.. سترحل"، وغيرها مما ترددت كثيراً في حملة معي إلى اسطنبول. لكني جل ما فعلته قبل مغادرتي، ترتيب المنزل، وإعادة طلاء الجدران، وازالة بعض الغبار عن لوحة الأهرام.

 

أما الشعارات الراسخات فاخترت منها واحدة تستعيد شرارة 25 يناير التي ورطتنا جميعاً بهذا الحلم وأدارت المطحنة فينا دون هوادة.. وتقول "لسا الأغاني ممكنة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.