شعار قسم مدونات

أين توجد الأفكار؟

blogs - human

" إن انفصال الفكرة عن الوسيط الذي يحملها سواءٌ أكان كلمات أو رموز أو أي شكل من أشكال التمثيل في الخلايا العصبية للمخ، يفرض التفكير في وجود وسيط آخر ذو طبيعة مختلفة يكون هو المسئول عن الاحتفاظ بالفكرة المجردة العارية من الكلمات والرموز والتمثيل" –الجزء السابق

(6)
المخ، الذهن، الذاكرة. هذه مفاهيم نحن صنعناها ، وإذا كان المخ هو شيء مادي يمكننا أن نمسكه بأيدينا، فإن "الذهن"، "الذاكرة" هي كلمات تشير إلى مفاهيم، وهذه المفاهيم بدورها تشير إلى واقع نهائي. هذا الواقع النهائي هو ما نتلمس طريقه عندما نتساءل : "أين تُوجد الأفكار".

وعندما نقول "يحضر في الذهن"، "ينطبع في الذاكرة"، "يشخص في الخيال" فنحن نستخدم تعبيرات مجازية، تصف واقع لا يُمكننا الوصول اليه إلا من خلال الذات (كلمة أُخرى تشير إلى شيء ذهني واقعي ولكنه غير محسوس)، من خلال أعيُننا الداخلية، عالم غير حسي ولكنه موجود، لأننا نشعر بوجوده. وهُنا الكلام عن عالمنا الداخلي في ذاته ، وليس أي عالم آخر خارجي نعتقد بوجوده.

إن المعنى، أو الصورة الذهنية للأشياء، هو الواقع الذي تشير إلى الكلمات والرموز، وهذا الواقع حقيقي ويملك وجوداً حقيقياً بمعزل عن أي تمثيل لغوي أو رمزي.

الفرضية التي ترى أن هذه التعبيرات المجازية تعكس واقعاً ماديّا في المخ يتمثل في الخلايا العصبية، أي التي ترى أن جُملة مثل " يحضر في الذهن"، أو "ينطبع في الذاكرة" تعكس عمليات فيزيائية بالمعنى الشامل لكلمة فيزيائي والذي يشمل ما هو كيمائي وبيولوجي، ويشمل كل ما ليس بفكرة أو مجاز، هذه الفرضية تقول لنا إن هُناك طريقاً آخر إلى "ما يدور في الذهن" و"إلى الخيال"، وإلى ما هو مطبوعٌ أو عالق في الذاكرة، ولكنه لا يمر عبر الذات، أي من الممكن أن يتم الإمساك بالخيال يوماً ما في المختبر.

(7)
عندما نقوم بتخيُّل شيء ما، فنحن نملك في ذهننا صورة هذا الشيء. وإذا نظر أحدهم داخل المخ فلن يرى هذه الصورة بينما هي موجودة في خيالنا.

لقد تعودنا أن نضع الخيال كمقابل للواقع الحقيقي، ولكن ذلك في سياق العلاقة مع الواقع الخارجي، أما في الذهن فإن الخيال يملك وجوداً حقيقياً، فإذا كنت أتخيل شجرة الآن فإن هذه الشجرة موجودة في ذهني، وهي لا توجد كمعلومات أو كرموز عمياء، وإنما كصورة حيّة. هذه الصورة لا يُمكن اختزالها إلى شيء آخر لأنها موجودة الآن وحية، شجرة تتمايل مع الرياح. وهذا يدل على مستوى آخر من الوجود "الحقيقي". فصورة الشجرة موجودة، ووجودها يختلف عن أي تمثيل لها في الخلايا العصبية للمخ.

فغاية ما يُمكن أن تحمله خلايا المخ هو صيغة ما أو ترميز ما للشجرة(مثل أي ترميز في خريطة )، وليس صورة الشجرة ذاتها كما أتخيلها الآن، بساقها وأفرعها وأوراقها الخضراء والتي تتراقص مع الرياح.

(8)
نحن نعلم أن كل خريطة هي مجرد تمثيل، وأن الأشكال والرموز الموجودة في الخريطة تشير إلى أشياء واقعية. فهُناك فرق بين صورة الجبل على الخريطة والواقع الحقيقي للجبل على الأرض. وكذلك هُناك فرق بين صورة الشجرة كما تُوجد ماثلة في خيالي، وصورتها كما يُمكن أن توجد عندما ينظر أحدهم إلى مخي من الداخل.

إذا عقدنا مقارنة مشابهة بين الكلمات (أو بشكل أعم الرموز ) والأفكار، فإن وجود الكلمات/الرموز في المخ يماثل وجود الأشكال والرموز على الخريطة، أي أن المخ سيكون هو الخريطة بالنسبة للأفكار، وليس الواقع.

فهو، أي المخ، يحمل الكلمات والرموز مثلما تحمل الأوراق ووسائط التخزين المختلفة الخرائط والأشكال. أما المعاني فهي شيء مختلف ولا يُمكنها أن توجد في الكلمات والرموز نفسها، تماماً مثلما أن الواقع لا يُوجد في الخريطة.

وهذا يعني أن واقع الأفكار، هو واقع مختلف يقع خارج حدود المخ، على الأقل كما نعرفه كشيء مادي محسوس.

(9)
إن المعنى، أو الصورة الذهنية للأشياء، هو الواقع الذي تشير إلى الكلمات والرموز، وهذا الواقع حقيقي ويملك وجوداً حقيقياً بمعزل عن أي تمثيل لغوي أو رمزي. وهذا الوجود لا يُمكن اختزاله إلى شكل من أشكال التمثيل في المخ، لماذا؟ لأنه سيفقد معناه وسيصبح بحاجة إلى تفسير.

مثلاً اذا اختزلنا الصورة الذهنية للشجرة إلى مجرد رموز في المخ، مثلما نفعل مع صورة الشجرة حين نقوم بتخزينها في الكمبيوتر، فلا يُمكنها أن تكون موجودة بعد ذلك في ذهننا، لا يُمكننا أن نتخيلها. تماماً مثلما أن الكمبيوتر لا يستطيع أن يتخيّل الأشياء المخزنة في الذاكرة. ويجب ألا ننسى أن كل ما يحمله الكمبيوتر وما يعرضه لا معنى له إلا بالنسبة لنا نحن.

وإذا قمنا باختزال الذهن البشري إلى شكل من أشكال الكمبيوتر، فسوف يكون من المستحيل وجود المعاني.

(10)
إذا كان المخ يحتوي الخريطة، فمن الطبيعي أن أي ضرر يلحق بالخريطة سيؤثر على قدرتنا على الوصول إلى الواقع الذي تمثله. ولكن هذا لا ينفي وجود الواقع. هكذا يُمكننا فهم الذاكرة، لا كشيء مختزل كُلياً في المخ، وإنما المخ هو مجرد وسيط يحمل خريطة ، يحمل رموز وأشكال، وليس الذاكرة نفسها، بكل ما تحتويه من أصوات، ألوان، روائح، وكلمات وأفكار ومشاعر.

(11)
العلم الطبيعي يعمل على موضعة الأشياء في الزمان والمكان، بمعزل عن الذهن البشري، وبمعزل عن الذاتية الانسانية. وعندما يتعلق الأمر بما هو ذاتي بطبيعته، فإنه يتلاشى بمجرد محاولة وضعه في لغة موضوعية فضلاً عن تحديده زمكانياً. ولذلك عندما نتساءل "أين تُوجد الأفكار" فإن إجابة العلم الوحيدة هو أنها لا تُوجد، إنها مجرد ظلال للعالم الحقيقي الوحيد الموجود، العالم المادي. أي الرؤية الأفلاطونية وقد تم قلبها رأساً على عقب، هذه هي رؤية الرؤية الموضوعية لعالم الأفكار.

نحن هُنا لا ندافع عن عالم المُثل الأفلاطوني بكل تأكيد، لأن عالم المثُل هو عالم الأفكار كمضامين، مثل مضمون الخير أو الجمال، أما هُنا فنحن نتكلم عن وجود الأفكار بمعزل عن المضمون، ولا نتكلم عن وجودها في عالم مفارق، بل في هذا العالم الذي يغمرنا تماماً ، عالمنا الداخلي الأكثر محايثة لنا من أي شيء آخر.

حن نفكِّر بواسطة مفاهيم كما أوضح "كانط"، ونفهم العالم من خلال كلمات وأفكار هي ذاتها تنتمي إلى هذا العالم الذي نتساءل عن وجوده.

(12)
هل تحتاج الأفكار إلى مكان لكي تُوجد؟
نحن نضع الأفكار في مكان افتراضي نسميه "الذهن" أو عالم الأفكار، فأين يُوجد هذا العالم؟
إن الاجابة الاختزالية للعلم هي أن هذا العالم هو مجرد وهم، ولكن هذه ِ اجابة، فلا يهم الصفة المعيارية التي نطلقها على عالم الأفكار، فكوننا نصفه بالوهم يؤكد أن هذ "الوهم" موجود، ونحن نتساءل عن وجوده.

ولكن المفارقة الكبيرة هي أن المفاهيم التي نفهم من خلالها الزمان والمكان والعالم الموضوعي، كلها تنتمي إلى هذا العالم الذي نتساءل عن مكان وجوده.

فنحن نفكِّر بواسطة مفاهيم كما أوضح "كانط"، ونفهم العالم من خلال كلمات وأفكار هي ذاتها تنتمي إلى هذا العالم الذي نتساءل عن وجوده.

إن مفهوم الوجود نفسه والذي من المفترض أنه يشمل كل شيء، بما في ذلك "عالم الأفكار"، هو أيضاً جزء من عالم الأفكار. ولذا فإن السؤال "أين تُوجد الأفكار" هو سؤالٌ شبيه بالسؤال "أين يُوجد الوجود".

والآن، إذا عُدنا ونظرنا إلى هذه المناقشة نفسها على أنها مجرد عمليات تحدُث في الخلايا العصبية للمخ، فإن "الوجود" كمفهوم سيتلاشى، لأنه سيفقد أي معنى وأي دلالة خارج الخلايا العصبية كشيء مادي محسوس.

معنى هذا الكلام أن الإنسان إذا خرج من عالمه الذاتي، عالم الأفكار، فلن يرى العالم على حقيقته، بل سيتلاشى أمامه كل شيء، وسيتلاشى هو أيضاً. أي أن المحطة الأخيرة للموضوعية ليست الحقيقة المطلقة أو "العالم كما هو"، وإنما العدم واللا-شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.