شعار قسم مدونات

"الأحرار" العبيد!

slave
إنّ المدلول المنطبع في أذهاننا عن العبيد أنّهم أولئك الأشخاص ذوو البشرة السّوداء، الّذين كانوا يُساقون بالسّلاسل الّتي في أعناقهم وأيديهم، يعملون دون راحة، لا ينامون إلّا قليلا، يُباعون ويشترون، لا قيمة لهم ولا اعتبار، ومن كان في غير صفّ هؤلاء العبيد فإنّه في صفّ الأحرار. هذا هو مدلول كلمة العبيد في أذهاننا، مدلول انبثق من السّياق التّاريخيّ الّذي ظهر فيه العبيد في العصور الغابرة.

بيد أنّ هنالك عبيداً يعيشون في القرن الواحد والعشرين، لا لون محدّدا لهم، مجرّدين من السّلاسل المعدنية، إذ أنّ هيئتهم وطريقة استعبادهم تختلف عن صور العبيد القدامى، يظنّون أنفسهم أحرارًا وهم عبيد. إنّهم عبيد الاستهلاك، أو بالأحرى عبّاد رؤوس الأموال أصحاب الشركات الرّأسمالية.
 

تعتبر الشّركات الرّأسمالية وخصوصًا الشّركات متعدّدة الجنسيّات صاحبة القرار الأوّل في الدّول الّتي توجد بها. فما الدّولة والنّظام السّياسيّ الحاكم إلّا واجهة لتلك الشّركات، تعمل من خلاله على تحقيق مصالحها الاقتصاديّة وفتح أسواق جديدة للتّسويق، سواء من خلال الأدوات السّلميّة أو حتّى من خلال الاحتلال العسكريّ لتلك الأسواق.
 

إنّ ذاك (الأمريكي، البريطاني، الفرنسي … ) الّذي يظنّ نفسه حرًّا في حياته السّياسية أو الاقتصاديّة ما هو إلّا عبدٌ تتحكّم فيه شركات الرّأسمال. فإنّ تلك الشّركات تجبر النّاخب أن يختار مرشّحه بشكل يظهر منه الاختيار.

فما المانع من أن يُباد الملايين من النّاس في أفغاستان وفيتنام والعراق من أجل أن تزدهر وتنمو صناعة الأسحلة في الولايات المتحدة الأمريكية؟! ما المانع من استعباد أطفال أفريقيا ومصّ دمائهم من أجل الحصول على "الكاكاو" لكي تنتج شركات مثل (Nestle) و (Mars) شوكولاته تجني من ورائها ملايين الدّولارات؟! ما المانع من فعل كلّ ذلك وزيادة، ما دام زمام السّياسة العالمية بيد تلك الشّركات المتوحشة؟!
 

إنّ هذه الشركات، وبفعل توحّشها المفرط، ما كانت لتقف فقط على التّدخل في سياسة دول العالم المتقدّمة، والتي تعتبر موطنها الأصلي، بل تعدّى الأمر إلى أن تقوم تلك الشّركات، وبمساعدة عملائها من جيوش العالم الثّالث، بعمليات انقلابيّة عسكرية من أجل الإبقاء على مصالحها الاقتصاديّة في تلك الدّول، كالانقلاب الّذي حصل في تشيلي عام 1973، والانقلاب الّذي قادته شركة فواكه أمريكيّة في غوتيمالا عام 1954 على رئيسها المنتخب ديمقراطيًّا "جوزمان". فلا مانع من إسقاط حكومات واقتتال شعوب في سبيل منفعة تلك الشّركات .

إنّ ذاك (الأمريكي، البريطاني، الفرنسي … ) الّذي يظنّ نفسه حرًّا في حياته السّياسية أو الاقتصاديّة ما هو إلّا عبدٌ تتحكّم فيه شركات الرّأسمال. فإنّ تلك الشّركات تجبر النّاخب أن يختار مرشّحه بشكل يظهر منه الاختيار. وما التّخيير بين حزبين (الدّيمقراطيّ والجمهوريّ) في أمريكا لا بديل عنهما في انتخابات الرّئاسة إلّا أكبر شاهدٍ على إجبار يُغلّف بصورة انتخاب، وهي تجبره كذلك أن يستهلك من شركات السّوق في صورة أنّه يختار بين تلك المنتجات. ثمّ إنّ تلك الشّركات قد زيّفت الكماليات جاعلةً منها حاجيّاتٍ وضروريّات، وذلك من خلال جعل الاستهلاك غاية في ذاته، لا وسيلة يتمّ من خلالها إشباع رغبات حقيقيّة للإنسان.
 

فأنت تلهث وراء صيحات الموضة، والتي لا فرق فيها يذكر بين الموضة والّتي قبلها، فلا فرق يضفي حاجةً أو ضرورة على الموضة الجديدة، إلّا حاجة مزيّفة وهي حاجة أن تواكب "القطيع" الّذي برمجته تلك الشّركات، بحيث يبقى في حالة استهلاك دائم.

بل إنّ الأمر قد وصل إلى جعل السّلعة معيارًا قيميًّا لمستهلكها، فصاحب السّيّارة الأعلى سعرًا قيمته أكبر من صاحب السّيّارة منخفضة السّعر، وصاحب ذلك الحذاء الثّمين يحظى باحترامٍ أكبر من صاحب الحذاء المهترئ، والذي قد يفوقه علمًا وخلقًا ودينًا. هذا عدا عن فتشية السّلعة وتوثينها وجعلها مركزًا يدور حوله الإنسان، في انقلابٍ معياريّ مفاهيميّ يشهده عصرنا في ظلّ حكم النّظام الرّأسماليّ الفاشي.
 

هذا بالإضافة إلى التّحكم بالمعايير الجمالية لترويج السّلعة، وادّعاء الإطلاقية فيها، وهدم النّسبية عند التّسويق. فجمال المرأة في نحافتها إذا كان التّسويق لحبوب أو دهون تنحيفيّة، ومرةً في امتلائها إذا كان التّسويق لحبوب فتح الشّهية، وطلاء الأظافر الأسود يضفي جمالًا باهرًا في حال أُريد تسويق طلاء أظافر أسود، وجمال البنطال في تمزيقه وعكف أسفله بعدما كان ذلك عيبًا وفقرًا يلمز به لابس البنطال، وهكذا.. في دوامةٍ من المعايير يتمّ التّحكم والتّلاعب فيها عند كلّ موضة، بحيث يظلّ النّاس غرقى في بحور الاستهلاك. فيكدح المرء ويتعب ويموت ويحيا من أجل الاستهلاك، ومن أجل مكانةٍ اجتماعية يحوزها باستهلاكه، بحيث يظلّ عبدًا لتلك الشّركات إلى أن يموت، وهو يظنّ نفسه "حرًّا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.