شعار قسم مدونات

القلب يعشق كل جميل

blogs- الأدب

"والعَجَب ممن ينتقص أبا الطيب، ويغضّ من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة.. فلو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما ممن تناول رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وعاب من أصحابه بُكْماً خرساً، وبِكاء مفحمين؛ ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر". الناقد الأديب الفقيه القاضي: أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني.
 

(1)
الصراع الدائم بين الدين والفلسفة، وإن شئت فقل بين الوحي والهوى لا بد أن يترك ضحايا على قارعة الطريق.. وهذه الضحايا بالدرجة الأساسية: هي القضايا التي يزيد الاشتباك فيها بحيث لا يمكننا نحن الذين نؤمن بمرجعية الوحي المتعالية أن نفصل بسهولة فيها بين المساحة التي يسيطر عليها المقدس والمساحة المتروكة للتدبير الإنساني.
 

الأدب والفن، من أين نتلقى قاعدة الحكم بالجمال فيها؟ وما هي المساحة التي يمكننا أن نقول: إنها مساحة معايير متعالية على الزمان والمكان لا تدخلها النسبية عند استخدامها؟

في العلم الطبيعي والتصنيع والتقنية يمكننا مثلاً أن نرى بوضوح وبسهولة المساحات الكبيرة المتروكة للتدبير الإنساني، والتي لا يسيطر عليها الوحي، ولا يتناولها إلا من طريق سكوت العفو ومظلة القيمة. وفي الأخلاق والقيم وما هو خير يمكننا أن نرى بوضوح وبسهولة المساحات القليلة المتروكة للتدبير الإنساني والتجربة البشرية؛ فأكثر مساحات هذا الباب خاضعة للوحي لا قول لأحد مع قوله إلا إن كان تابعاً لقوله أو دالاً عليه أو منتزعاً منه.

تأتي مواطن الإشكال دائماً في تلك الأبواب التي تمس قارعتي طريق الدين والفلسفة مساً عظيماً: الأدب والفن. من أين نستمد معايير تلك الأبواب، ومن أين نتلقى قاعدة الحكم بالجمال فيها؟ وما هي المساحة التي يمكننا أن نقول: إنها مساحة معايير متعالية على الزمان والمكان لا تدخلها النسبية عند استخدامها؛ لتحديد ما هو الجميل وما هو الإبداعي؟


وهل هذه المساحة موجودة أصلاً؟
أم إنه لا معايير متعالية في هذا الباب أصلاً، والفن للفن وكل ما رأيته جميلاً فهو جميل؟ أم هناك معيار وحيد هو حداثة هذا الجميل، وحداثة هذا الإبداعي الذي لا يستمد معاييره من قديم لمجرد قدمه، ولا يستغرق في عالم غير عالمه وإنما يكون ابن زمانه ومكانه؟ لماذا ينبغي أن أجعل زهيراً والنابغة والضليل معياراً أزن به أدونيس أو صلاح عبد الصبور؟ ما الذي يجعل القصيدة العمودية هي الشعر، أو حتى بعد تنازل محسوب تُجعل التفعيلة معياراً للحد الأدنى من الشعر، لماذا، ما الذي يوجب ذلك؟
تقول: سموها نثرًا؟
ونقول: ولماذا لا نسميها شعرًا؟
 

ما هو المصدر المقدس الذي وضع التعريف الجامع المانع لما يُسمى شعرًا، فبات تعريفه ملزمًا للخلق كلهم؟ ما هو المعيار بالضبط الذي يجعلك ترى العامية في الأدب مساً من الشيطان؟ وهل أولاد حارتنا يمكن أن يقال: إنها -روائيًا- أجمل من إسلاميات الكيلاني أم إن هذا الحكم بالجمال لا يسوغ أن يكون هكذا خالياً عن القيمة المضمونية؟

ما هو الحق في باب الجمال والفن والإبداع وما هي معاييره ومن أين تُستمد، وما هي حدود هذه المعايير، وهل يسوغ أن تتسع حتى أجعل القديم معياراً لكل شيء والحديث مذموماً من كل وجه؟ هل يسوغ أن تضيق أو تنعدم حتى يكون الهراء المرصوف بلا معنى = شعراً وفناً؟

 

(2)
أمران لا أريدهما هنا:
الأول: النسبية المطلقة في تعيين ما هو الجميل، حتى يصير الفن والأدب أرضًا مستباحة يكون الحسن فيها ما يستحسنه أي أحد من الناس مهما كان فساد ذوقه.
الثاني: نزع المرجعية المقدسة عن أن يكون لها سلطان الحكم القيمي على الأدب والفن.


لا إشكال مطلقًا في نقد باطل يتضمنه أدب رفيع، ما دمت تسلم معنا أنه أدب رفيع بمعايير الأدب، ولم تجعل الباطل الذي فيه حجة تنزع عنه جماله الذي لا يختلف فيه أهل العلم به.

وإنما الذي أريده في مقابل هذين الأمرين لتتضح مساحة التفكير في هذا الموضوع:
أولًا:
أن تكون لائحة المعايير بابًا مفتوحًا للبحث والإضافة والنقاش والتجديد والموازنة، وأن تزيد فيها التفاصيل ومستويات واعتبارات التقييم شريطة ألا نصل ليكون الفرد مهما كان ذوقه وخبرته ومعرفته = معيارًا للتقييم.
 

ثانيًا: أن يكون للمرجعية المقدسة سلطان الحكم القيمي في مساحتي الحق والخير، فلا إشكال مطلقًا في نقد باطل يتضمنه أدب رفيع، ما دمت تسلم معنا أنه أدب رفيع بمعايير الأدب، ولم تجعل الباطل الذي فيه حجة تنزع عنه جماله الذي لا يختلف فيه أهل العلم به.

فمساحة الجميل، وهي مساحة الجودة الفنية المحضة أميل إلى أنها من مناطق السكوت والعفو التي لم تتدخل الشريعة فيها إلا بقدر ما أظهرت لنا أن كلام الله لا يعدله بيان أحد من الناس، لكن انتزاع تفاصيل معيارية من هذه المقدمة المتفق عليها "كأن يُجعل البيان بالفصحى العربية هو سقف البيان" = لا يجعل هذه التفاصيل بمجرد هذا الانتزاع صحيحة ولا مطلقة، بل باب البحث والحجاج يظل مفتوحًا على مصراعيه يُثري الذائقة وإن لم نصل فيه إلى قول فصل.
 

وبعد.. فقد أجملت الكلام هنا في هذه المسألة الدقيقة التي هي من أصول النظر في أبواب القيم وفلسفتها وموقف الوحي منها؛ لأني أحب أن أجعل معقد النظر موجزًا يُضاف فيه ويُزاد عليه، ونتداول المراجعة حوله؛ فليس ثمة كلمة ختام هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.