شعار قسم مدونات

حتى بفصاحتنا نشقى!

blogs - خط عربي
ليس حديثًا يُفترى أنَّ جَمال اللغة العربية الفصيحة لا يُضاهيهِ جمالُ أيُّ لغةٍ أخرى أو حتى لهجة، لغةُ القرآن والبيان، سيِّدةُ الشعر والحكمة والفلسفة، وملِكةُ الحب والمشاعر، تلك الأنيقةُ بحَرفها وخطِّها، تميَّزتْ بكثرة جذورها اللغوية وبفوارق كثيرة ميَّزتها عن أيِّ لغةٍ أخرى، لتتربَّع على العَرْشِ وتأتيها باقي اللغاتِ مُنقادةً خاضعة لتكون هي أصلَها وينبوعها الذي انفجرتْ منه أنهارًا وجداولَ كما تثبتُ كثيرٌ من أبحاث المختصين اللغويين، لتصطدمَ بعد كلِّ تلك السِّمات بأهلٍ ظلموها وما رعوْها حقَّ رعايتها، قتلوها حيَّةً واتخذوا من دونِها لغاتٍ ولهجاتٍ فاقتهنَّ في الحُسن والجمال ولكنَّهم كانوا عن ذلك عَمين، حتى باتت تنتظرُ يومًا تُستنطقُ فيه: وإذا الموءودة سُئلتْ بأيِّ ذنب قُتلتْ.

ما زلتُ أذكر جيدًا ذلك اليوم الذي تضايقتْ فيه منِّي معلِّمةُ الرياضيات في المرحلة الإعدادية حين سألتُها عن المقصود بـِـ "وَلد" في مسألةِ احتمالات، أيْ أنّها ذكرٌ أم أنثى لأنَّ لذلك تأثيرًا على النتيجة -حسب فهمي-، لكنَّها أجابتني -وقد عقدت حاجبيها- بحدَّة بأنَّ القصد واضح ولا يحتاج لشرح، بل وقامت بإخبار مدير المدرسة عن ذلك "الجُرمِ العظيم" الذي ارتكبتُه، ليقوم بدوره بمعاتبتي وطَلَبِ عدمِ تكرار ذلك، كان ذلك الموقف أول حاجزٍ أصطدمُ به حين بدأ تعلِّقي باللغة الفصيحة يزداد ويضربُ جذورَه في روحي ووجداني.

ذلك اليوم عرفْتُ أنَّ هذا التعلق لهُ من الشقاء قِسْمة، وأنَّ هذا الحب له من العذاب نصيب، كيف لا وقدْ أصبحنا أبناء أمّة خلعتْ موروثها العربيَّ الفصيح واستبدلته بأخرى منْ لهجات ركيكة ولغات أجنبية، ليصبح أهل اللغة والفصاحة غرباء في هذا الوطن العربي الذي لم يعد يملك من هذا الاسم إلا رسمَه وحروفَه، بعد أنْ كنّا قومًا كان الراعي فينا من أفصح الناس قولًا وأبلغهم، وبالفصاحة يُشارُ إلى فلان وبها يحفظُ قدْره، واليوم تجدُ كثيرًا من الأكادميين العرب مِنْ حَمَلةِ الشهاداتِ العليا يلفظون هذا اللغة الفصيحة بل حتى يضايقهم سماعُها في محاضراتهم وكأنها تحاصرهم وتزيد من الخناق عليهم، بلْ تعدَّى الأمرُ ذلك ليطالِب بعضهم باعتماد اللهجة الدارجة لغة تدريس رسمية كما حدَثَ في لبنان.

اللغة باقية مُخلَّدة لا يشقى إلا من أعرضَ ونأى بنفسه عنْها، فكيف لمنْ يقرأ القرآن ألا يزداد فصاحة؟ وكيف بمن يدعي شفف القراءة ألا يصيبه شغف الفصاحة؟ وكيف بمن يدعو للنهضة والتقدم ألا ينهض بها ويتقدم؟

أصبحَ واقع اللغة العربية الفصيحة واقعًا صعبًا يعيشه كلُّ من انتمى لهذه اللغة وأحبَّها حُبًّا جمًّا، فمِنْ سُخرية مَنْ جهلوها إلى انتقادات من تحلَّلوا من روابطها، يواجهُ المتحدِّثُ بها صعوباتٍ في التعامل مع عامة الناس بل وحتى مع بعض المثقفين، فيطلقُ عليك البعضُ -تهكُّمًا- ألقابًا كالمنفلوطي وسيبويه وغيرهم، ويصفك البعض الآخر بالفلسفة وحُبِّ الاستعراض، وكأنكَ جئتهم بما لم يأتِ آباءهم الأولين، وما أدْهى من ذلك وأمرُّ مساءلة البعضِ لكَ لمَ لمْ تدرسْ تخصص اللغة العربية؟! وكأنَّ الفصاحة لا تليقُ بالطبِّ والهندسة والعلوم، تلكَ التي وسِعتْ كتاب الله حفظًا وغاية، ضاقتْ بها حناجرُ وصدورُ أهلها، ليصبح من يتحدثُ بها في عُزْلة عن محيطه وذويه، وكأنَّهْ حالة كيميائية شاذة، كما يعاني أبناؤهم من السخرية والعزل من أقرانهم في مدارسهم وذنبهُم أنَّهم نشؤوا على الفصاحة وبها نطقوا، وكأنَّ هذا الحال أشبهُ بحوارٍ يدور بين مَنْ اتخذ من الفصاحة عشيقتَه وبين مَنْ رغبوا التفريق بينهما:
"قالوا له: دعْ قيْدها دعْ سجن عينيها وغادر!"..
"ما دَرَوا مِنْ أنَّه قدْ كان في عينيكِ حرّا"..
"قالوا له: هذي قصور الطامحين فخلِّها، لا يشغلنَّكَ حُبَّها"..
"يا ليتهم! تركوا القصور لنفسهِم، وبنَوا لأجلي في بحور الشعر قصرًا"

لا ريب أن شقاء أهل اللغة والفصاحة مرتبطٌ بوضوحٍ بالتراجع الذي يعيشه أهلها بعد أنْ كانوا وكانتْ، ولا شكَّ أنَّ توارث الهزيمة والانبهار بحضارة الغرب وغيرهم ممن وصلوا للحداثة والتقدم وبالمقابل تعيشُ المنطقةُ العربية خصوصًا أزماتٍ وصراعات زادت من عمق الشرخِ بين اللغة وأهلها وزادت من شقاء وعزلة الناطقين بها المحافظين عليها رغم الظروف، كان له أثر واضح في تبني النظرة السلبية والتي ارتبطت أحيانًا بمظاهر الإرهاب والتكفير.

ولكنْ هل تغافل أهل اللغة عن عِظم هذه اللغة، عن القرآن الذي اختارها لغةً ودعوة ورسالة، عن شعرائها الذي أطربوا مسامعنا من غزل وحكمة ومديح، عن علوم علمائها التي بها كُتبت مؤلفاتُهم، عن بقائها وثباتها حتى يومنا هذا؟ فكيف بمن حافظ عليها نُطقًا وكتابةً يشقى بها اليوم بين أهله وقومه، وكأنَّه من عصرٍ آخر، أليس حريًّا بنا أن نجتمع حولها وندعم كل مظاهر التمسك بها في زمن تكالبت فيه الأمم على كلِّ موروث ثمينٍ لدينا؟ أليست اللغة هوية بها نُعرفْ؟ فهل يُعقل أنْ يصبحَ من تمسكوا بهويتهم وكأنَّهم يعيشون في منفى، وهل يُنفى المرْءُ بين أهله وذويه وعلى وطنه؟

فلتعلموا يا قومي أنَّ هذه اللغة باقية مُخلَّدة لا يشقى إلا من أعرضَ ونأى بنفسه عنْها، فكيف لمنْ يقرأ القرآن ألا يزداد فصاحة؟ وكيف بمن يدعي شفف القراءة ألا يصيبه شغف الفصاحة؟ وكيف بمن يدعو للنهضة والتقدم ألا ينهض بها ويتقدم؟ كيف ننتظرُ نصرًا موعودًا إنْ كان أغلى ما نملك -هويتنا- أصبح رهن المناسبات والاحتفالات؟ وبالمناسبة أحبُّ أن أخبركم: لقد أتقنتُ الإنجليزية والفرنسية حرصًا مني على الإلمام والاطلاع ولكنَّني لم أتذوَّق يومًا بحلاوتها، فمهما اغترفتُ منها لا أشبع، فإن شقيتُ فيها فإنَّ شقوتي فيها نعيمٌ يا ليتكم تعرفونه، ولو نطقت جوارحي لقالت:

أودعتُ فيك حشاشتي ومشاعري
ولأنــتِ أمّــي، والــدي وكـيـانـي
لـغـةٌ حـبـاهـا اللهُ حـرفًـا خـالدًا
فتـضوّعـتْ عـبقًـا علـى الأكـوانِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.