شعار قسم مدونات

الهجرة بلا عودة

blogs - رجل في طائرة
الهجرة أيضاً من أنواع البلاء الذي أصاب البلاد، مثله مثل الموت تماماً، من وطأت قدماه القارة العجوز وتحمل مشقة السفر وعناءه لشهور طويلة، لن يعرف طريق العودة، وإن عرفه زائراً بعد سنين طويلة وثقيلة أقتلعت جذوره من شروشها.

مر العام السادس على الثورة السورية، والرابع على بدء موجة الهجرة أو التهجير، رحل خلالها أكثر من ثلاثة ملايين سوري فقط دون الجنسيات العربية الأخرى الذين أتعبتهم الحروب في بلادهم، هؤلاء كلهم استقر بهم الحال في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا ودول أخرى تمنح اللجوء والإقامة التي في نهايتها تعطي حق المواطنة المفقودة في بلادنا، وهذا بالنسبة للمهاجرين طوعاً والمهجرين قسراً.

بلغت حركة الهجرة هذه ذروتها في صيف عام 2015، بعد حوادث غرق وموت على "طريق التهريب" المعروف بطريق البلقان الذي يبدأ من أزمير التركية ثم بحر إيجة والجزر اليونانية مروراً بدول البلقان ثم دول الاتحاد الأوروبي الذي كانت بدورها تجري تسهيلات للوافدين عن طريق فتح الحدود واستقبالهم في محطات القطارات ونقلهم حيث يشاءون وأي دولة يختارون.

كانت حركة الهجرة قبل صيف 2015 محدودة ومركزة فقط من مطارات الجزر اليونانية بوساطة سماسرة لهم أساليبهم الخاصة في تسيير أعمال اللاجئين مقابل مبلغ مادي يتوسط الـ 3000 يورو، لكن لم تهاجر النسبة الأكبر من هؤلاء الناس إلا بعد تردي الأوضاع الأمنية في سوريا خصوصاً والبلدان المشتعلة عموماً كاليمن والعراق والصومال ومصر، بالإضافة إلى انعدام وسائل الدخل واستحالة فرص العمل سواء في المناطق الآمنة في بلدانهم أو الدول القريبة كتركيا والأردن ولبنان.

لا يمكن التأويل أو الحديث بالغيب عن السنين القادمة بعد انتهاء الثورة في سوريا وتحقيق أدنى متطلباتها على الأقل، لكن بشكل عام كل من هاجروا خسرتهم البلاد

في الحديث عن الوضع السوري خصوصاً كان أكثر من 90 % من المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي يقيمون في تركيا إما في مخيمات اللجوء أو في المدن الحدودية بالإضافة إلى استنبول، لكن مع ذلك كان مستوى المعيشة متدني جداً إلى درجة البقاء على قيد الحياة فقط، ناهيك عن حملة الكر التي يشنها النظام وحلفاؤه على المناطق المحررة بعد تدخل روسيا بشكل مباشر، وهذا ما يخيب الآمال في ما يخص إسقاط النظام والعودة إلى البلاد خصوصاً أن كافتهم من مناطق المعارضة التي ذاقت الويلات في ما مضى ولن يكون مستقبلها أفضل إن بقي الحال على ما هو عليه.

أُجبر غالبية الناس على الهجرة لهذه الأسباب فيما كان جزء آخر وهو بسيط، كانوا مما يسمون "المهاجرين الاقتصاديين" في سبيل تحسين ظروفهم المعيشية والمادية أو العملية بعد فقدان الأمل من الحلول في البلاد وعدم توفر بيئة ملائمة في دول الجوار لإنشاء مستقبل افضل بإنشاء مشاريع صغيرة أو كبيرة في ما يخص الرخص التجارية والأوراق الثبوتية والإقامات وتصريحات العمل وسهولة الحركة والتنقل.

يتحدث اللاجئون هناك في أوروبا عن جلسات التحقيق التي تجريها المحاكم للبحث في قضية حق اللجوء، إن عددا من الأسئلة التي تطرحها المحكمة تخص العودة في حال أستقرت بلاده وما هي نواياه المستقبلية هنا "في أوروبا" وغالباً ما يجيب اللاجئ عن بناء مستقبله في أوروبا من حيث الدراسة والعمل والالتزام بالقوانين وإلغاء فكرة العودة أو مغادرة أوروبا، ودون هذه الإجابات قد يلغى طلب اللاجئ أو يرفض وهذا بنسبة قليلة ونادرة، لكن الحديث بهذا الشكل من قبل محكمة أو دائرة حكومية تتحدث باسم دول أوروبا ليس بمحض الصدفة أو أسئلة روتينية بقدر ماهي انتقائية لإحصاء الحاجة المطلوبة للبلاد من اليد العاملة الفتية والعقول العملية والأعمال المهنية التي تفتقر لها القارة العجوز.

الاعتياد على نمط حياة معين لا يعكر صفوه شيء وسط حالة من الرخاء الاقتصادي والأمني وتوفر فرص العمل بدخل مرتفع في أكثر دول العالم تقدماً وحضارة، هو أمر ليس بالسهل الاستغناء عنه.

وشأن الاتحاد الأوروبي شأن البلاد التي تقع خلف البحار في الهجرة والتي من الصعب الوصول إليها بطرق غير شرعية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا الذين يطلقون برامج إعادة توطين سنوية فهذه الدول بطبيعة الأحوال تقوم على التوطين وجلب مواطنين يتم انتقاؤهم بعناية بالغة، وهذا ما حصل خلال السنوات الأخيرة فكل بلد من هذه البلدان أطلقت مشروعاً سنوياً لاستقبال عشرات الآلاف من السوريين ذوي الشهادات العليا والعقول النيرة التي يستفيدون منها، بالإضافة إلى مزيج من الأعراق والطوائف بشكل متساوِ للعدد المطلوب وليس لنسبة المنكوبين أو المهجرين، هذا في ما يخص الولايات المتحدة، أما أستراليا وكندا كانتا بدرجة أقل حيث تم جلب كثير من اللاجئين من مخيمات اللجوء ومن مكاتبهم حول العالم.

لا يمكن التأويل أو الحديث بالغيب عن السنين القادمة بعد انتهاء الثورة في سوريا وتحقيق أدنى متطلباتها على الأقل، لكن بشكل عام كل من هاجروا خسرتهم البلاد لا عودة لهم في القريب وإن كانت بشكل جزئي بسيط لا يذكر نتيجة الأمثلة التي يشهدونها في العالم بداية من الصومال ولبنان وأفغانستان ثم العراق الذين لا زالوا غارقين في الأزمات السياسية والاقتصادية والفلتان الأمني والعسكري بعد عشرات السنين من انتهاء الحروب كما يفترض.

كذلك بالنظر إلى المهاجرين القدامى من الأتراك والفلسطينيين والبوسنيين الذين شكلوا مجتمعاتهم الخاصة واستقروا إلى الأبد رغم أن بالبعض منهم كالأتراك مثلاً ازدهرت بلادهم واستقرت اقتصادياً وسياسياً وأصبح دخل المواطن فيها أعلى من دخل بعض دول الاتحاد مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، لكن الاعتياد على نمط حياة معين لا يعكر صفوه شيء وسط حالة من الرخاء الاقتصادي والأمني وتوفر فرص العمل بدخل مرتفع في أكثر دول العالم تقدماً وحضارة، هو أمر ليس بالسهل الاستغناء عنه إلى بلاد لم تشبع من الموت والخراب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.