شعار قسم مدونات

تجربتي مع "قواعد العشق الأربعون"

blogs- قواعد العشق

حزننا على انتهاء كتاب قرأناه بعقلنا وجوارحنا دليل على نجاحه وصدق كاتبه. خاصة تلك الروايات التي تحكي تجربة مريرة لحياة بشر يكتب أو يكتب له أو يكتب عنه.. روح عانت بين حزن وسعادة منح وعطاء كسب وخسارة.. قد يرفع مقامها الأسلوب الراقي مقامها حتى تغدو كالمعلقات على حائط تجربتنا وقد يهوي بها إلى أسفل السافلين.. عند أصحاب الذوق، وتغدق جيوب التجار من ناشيها وقارئها أن خالطها الابتذال الذي ترومه العامة.
 

وقد نجد في الكتابات الحديثة عناوين مغرية كما كتب وول ديورانت قصة الحضارة وقصة الفلسفة ربما لأنه أدرك أن كل التراث الثقافي الذي انتقل عبر الأجيال قد كان أقاصيصا وأساطير وحكايا شعبية قيدها الزمن كفلكلور شعبي تتوارثه الأحفاد عن الأجداد في قالب تشويقي متدرج يمضي بتلك العقدة التي تشبه عقدة من عقد كل بشر على وجه البسيطة، ما يجعله يرى ويتخيل شخصياتها بأشخاص عايشهم وتقرب منهم ويقاسمهم أنفاسه..
 

بدأت تفاصيل الرواية "قواعد العشق الأربعون" تغير بعضا من تفكيري شيئا فشيئا.. وترتقي بروحي في التّعامل مع الأشخاص والأشياء وتقربني قواعدها للاتصال بالله أكثر.

قصة الأنثروبولوجيا، قصة الفيزياء، قصة العلم.. قصة الإيمان، قصة الإسلام، قصة الأندلس وغيرها مما تضمن عنوانها طابع الحكايا.. وسيلة جدية بأن تنشر المعرفة بأسلوب روائي يرسخ المعلومة ويساهم بظاهرة المثاقفة بين الحضارات وقبلها بين أبناء المجتمع الواحد تجذب إليها كل هاوي ومتمرس.. فضولي ولامبالي.
 

فإن ببعضها أسرار دفينة لحياة انتهت وبقيت خطوطها مصابيح تنير طريق الأحياء.. تروي تجارب مررنا بها ولم نحسن إدراكها في سن ما قصر عنها فهمنا وقلة وعينا.. لتعبث بها وبذاكرتنا بعد سنوات إحدى الروايات فتستحضرها إمامنا بكل تفاصيلها وترينا إياها بمنظور غفلنا عنه يوما ما، نعيشها من جديد بعمق آخر وبعد أعمق.. يجعلنا تتعلم منها أضعافا.. تنتهي بنا على حكمة تجود بها سنوننا على من هم بعدنا.. فما نحن إلا روايات.. لم تكتب!
 

وقد كانت أجمل تجاربي على الإطلاق وبوابتي نحو عالم القراءة بشكل مختلف تماما مع رواية "قواعد العشق الأربعون" لـ "أيليف شافاق"، ترجمة خالد الجبيلي.. رواية من عصرين مختلفين وقصتين متداخلتين عن يوميات سيدة أمريكية تتعرف إلى المتجوّل عزيز وتقرأ روايته "الكفر الحلو" كناقدة أدبيّة، وتسرد لنا إليف بشكل محبوك رواية من مزيج روايتين فنعيش حياة العارفين شمس التبريزي وصديقه جلال الدين الرّومي -رحمهما الله-. ويمكن القول بأنّها إحدى الروايات النادرة التي قد نصادفها في هذه الحياة.
 

انتابني الانشغال والكسل بداية في خوض غمارها، فارتباطي بالرواية يفقدني خصوصية حياتي وقتا ما، ويغيّبني عن الزمكان.. أعيش تفاصيلها واقتبس كلماتها وأبحث عن حلول لعقدها وكأنها مشكلة تعنيني، لكن انشغالي بإعداد مشروع رسالة الدكتوراه جعلني أهجر أي نوع من الروايات مهما بدا عنوانها مغريا.. إلّا هذه، تأهّبت لها كحدس متوقّد وعكفت أنظر غلافها كلّ مساء، وفي ليلة رمضانية هادئة انخرط الجميع في نوم عميق على غير العادة.. وفي عزّ الهدوء المفرط وحلّ الأرق مسامرا مزعجا، اندفعت نحو الغلاف الغريب.. الأحمر المستفز بزخرفات عربية اختارت الأصفر صبغة لها. تخيّلتني وكأنني نحلة تغريها الزهور والورود بألوانها فتنطلق نحو الرّحيق دون تردّد..
 

وما زاد استفزازي كلمة "عشق" وما لها من وقع على كل مسمع بين متقرّب ومتهرّب.. تحكمه خلفية ما وانطباع محدد حول مضمون الكلمة، ضيقا واتساعا، فما كان منّي إلا أن أجرب صفحاتها الأولى إرضاء لفضولي، لكن جاذبية ما تقاوم حذري.. تسحبني عبر دهاليزها.. لأدرك بعد سطور أنني سأخسر إلّم أسر عبرها. بمرور الليالي.. نالت حظها من نصف ساعة قبل النّوم، بدأت تفاصيلها تغير بعضا من تفكيري شيئا فشيئا.. وترتقي بروحي في التّعامل مع الأشخاص والأشياء وتعطيني بعد نظر لمعضلات الحياة وتقربني قواعدها للاتصال بالله أكثر.. بعد أن بات القرآن بين يديّ كما الطّلامس.. لا أرى منها إلا آيات العذاب والعقاب.
 

البعض قد اعترف بأنه كان يظلم المفاهيم الصوفية في توصيفهم لتجاربهم الذاتية، وأنهم وجدوا بها "قواعد العشق الأربعون" أجوبة لكل الأسئلة حول غموض الفهم الصوفي للحياة والعلاقة بالله.

فجعلتها برفقتي كقاموس الجيب.. وإشارة نحو العودة، أتقرب منها في لحظات تعقّد حياتي وتقلّب مزاجي وكأنها تختلج كينونتي وتنفض عنها غبارا.. و"تبرش" كلسا من القسوة والغفلة، بدأ يستوطن قلبي. كنت أتظاهر بالنّعاس كلّ بضع صفحات منها حتّى أبقي لي شيئا من السّحر العبق البلسم.. الأنس، فقد بتّ أخشى أن تفنى صفحاتها وأقيم عليها حدادا ومأتما.. لأني أعي طريقتي وفلسفتي مع الكتاب، فلن أعيد قراءتها مهما بلغت عظمتها.. وسأكتفي بمقاطعها الأكثر تأثيرا.. في حال استوطن الفراغ شيئا من عقلي.. لذا حرصت على مصافحة كلّ حرف منها وكأنّها ترانيم مقدّسة.
 

ومن أسرارها أنّها جمعتني بعدد من الأصدقاء الرائعين ووطّدت علاقتي بالمقرّبين.. فمنذ الإعلان عنها انكب الكثيرون لقراءتها.. والأغلب كان يتردد لتحفظه من كلمة "عشق" الّتي بددت مدلولاتها المادية المشوهة سرا لا ينفصل عنه كيان الإنسان.. فهجران المحبة والتعبير عنها قد جعلت إنسان اليوم أقسى قلبا وأجلف طباعا.
 

وكم كنت أسعد لتلك الرّسائل التي تلومني عن تأخري في إخبارهم عنها.. وأخرى تنقم عليّ بمودّة حين سببت لهم أرقا لعمقها وتشعّبها.. والبعض الآخر قد اعترف بأنه كان يظلم المفاهيم الصوفية في توصيفهم لتجاربهم الذاتية، وأنهم وجدوا بها أجوبة لكل الأسئلة حول غموض الفهم الصوفي للحياة والعلاقة بالله.. وآخرين تغيّر حكمهم في مقاطعة الروايات جملة، مع اعتراض آخرين عمّا تخللها من مقاطع تتفلّت عن أطر الشرع ومشاهد تجارية مبتذلة.. بالنهاية تظلّ كنقطة الحبر في البحر. أحببت الكاتبة وعمقها.. احترمت قلمها وخيالها، وبدأت أتدرّج مع قواعدها، ثمّ انتقلت تجربة غريبة أخرى مع رواية "حليب أسود"..

يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.