شعار قسم مدونات

في مديح العائلة

blogs - mother
تحت تأثير عجلة الحداثة الطاحنة، ترضخ المفاهيم والتصوّرات عن العلاقات الإنسانية والمشاعر لتغيّرٍ كبير، لتغدو سائلة ورخوة دون أعمدة حقيقيّة تثبتّها. علاقات مطفأة! وبتاريخ صلاحيّة قصير توّزع بالجُملة، وضمن هذا السراب لا ملجاً وفيٌّ لنا غير أولئك الذين لا نميل لإخفاء شرورنا أو تخبئه مخالبنا أمامهم! وهؤلاء هم عائلاتنا.

 

الأشخاص الذين وجدنا أنفسنا بينهم، دون أن نُدلي بآرائنا في ذلك الوجود. وكذلك هم لم يُقدّموا طلبا يحوي صفات دقيقة للأبناء الذين سيحصلون عليهم، ولكنّهم أمسكونا كما نحن، كُتل لحم بكّاءة، وأطفال ثرثارون، وتقبّلونا – إلى حدّ ما -، ومضينا نعيش تحت سقف واحد، تحيطنا البَركة، فنأكل من نفس الطبق، ونستخدم الأكواب والأغطية، ونقتسم معهم كل شيء من اللقمة اليسيرة إلى كل ما تحمله الكلمة من تقلّبات.
 

العائلة لا تعني أبداً التشابه المُطلق؛ هذه فكرة غير ناضجة، ولا وجود لها سوى في المدينة الفاضلة. لأن العائلة هي هذا الرباط المقدّس في صلة الدمّ، التي تجعلنا قادرين على الاعتراف بالاختلافات الكثيرة بيننا وإدراكها ثم تجاوزها.

تكمُن عَظَمة العائلة بأنها تبني فينا كلّ ما يمكن بناؤه. نكون بين أيديهم صلصالا طريا، فيضعون في خليطنا ما أرادوا، ليشكّلونا بقالب معيّن، على الأقل في الفترة الأولى من حياتنا، والتي هي بطبيعة الحال أهم المراحل. في العائلة نقابل الرحمة والأمان والرضى والحُبّ لأجل ذاتنا، ونتعلم كيف يساند البشر بعضهم. دون العائلة ما كنّا لنتعرف على معظم المفاهيم، ولا نتفقّه في المشاعر، حتى نعرف ما هي التضحية، أو كيف يبدو شكل التضامن الحَقّ؟ العون والمواساة، والأهم الانتماء الذى يتبعه الوفاء.

العائلة لا تعني أبداً التشابه المُطلق؛ هذه فكرة غير ناضجة، ولا وجود لها سوى في المدينة الفاضلة. لأن العائلة هي هذا الرباط المقدّس في صلة الدمّ، التي تجعلنا قادرين على الاعتراف بالاختلافات الكثيرة بيننا وإدراكها ثم تجاوزها، بل وجعلها حبكات سريّة لذيذة، ومنبت قصص مضحكة، توثّق أيامنا وتؤنس وحشتنا. أفراد قلّة نتشارك معهم الضائقة المخيّبة والفاجعة، بمقدار ما نقتسم معهم أفراحنا الصغيرة وسذاجاتنا العديدة دون حرج.

ثمّة حيّز فارغ في دواخلنا، وأكاد أجزم بأنه لا يمكن تعبئته، إلّا من خلال عائلة وبيت مُحبّ. فلا عجب أنه وحسب إحصائيات تشير إلى أنّ 70 بالمئة من نزلاء السجون المحكومون بمدة طويلة، عاشوا ضمن أسر مفككّة. و35 بالمئة من المراهقين لآباء منفصلين معرّضين لمشاكل نفسية أكثر ممن فقدوا عائلاتهم موتاً. وحتى بعد مرور أكثر من 6 سنين عجاف على انفصال الأهل، يبقى لدى الشخص شعور بعدم الأمان، وميل إلى الانعزال والوحدة، بسبب العلاقة الطردية بين الاكتئاب وتفكّك الأسرة.

أن تمتلك عائلة، يعني أن يصبح مزاج والديك المتعكر، مثل الحرب الباردة الخاصة بالمنزل. وضياع حبّات الألماس في العالم، يبدو ذو شأنٍ هزيل، إذا ما قارنته بضياع الحذاء الذي يحتاجه شقيقك الليلة! ولتذهب أرقام البورصة للفناء أمام مسألة حساب تُقلق شقيقتي الصغرى. لم أولد لعائلة مثاليّة هادئة، ولا يعمّ السلام الأبديّ بيتنا، بل نختلف ونتشاجر كل دقيقتين! ولم نعِش ليالٍ ورديّة، وضحكات ممتدة يسليّها الرغد. انتحبنا معاً، وفقدنا أعصابنا وغضبنا. وهذا ما أنتج الرابطة الفعليّة المحبوكة جيّداً، والميثاق غير المكتوب بالحبر وإنما بتركيبة الدمّ.

إنْ حدث وسألك أحدٌ عنهم، لا داعي للخجل منهم. فمن غير العادل أبداً أن تخجل ممن أحبك وحيداً. هذا إجحاف صريح، وتنكّر لا يجلب الآن سوى البؤس، ولاحقاً يورث الحسرة. لا ننسى أننا نصبح مع الزمن أكثر شبهاً لعائلاتنا بطريقة متوارية. شبه لا يُفصح عن نفسه علناً، فلربّما لا نمتلك ذات لون العيون أو البشرة، ولا نفس الذقن الطويلة، ولكنّنا – بصورة أو بأخرى – نتشرّب ملامحّهم، لتنعكس في وجوهنا. شيءٌ ما يُضاف إلى صِبغتك، ويلتصق بهويّتك، فيُخبرك أولاً، ثم يهمس للجميع بأنك ابنهم الذي ينتمي إليهم.

يمكنني أن أتحمّل همومي الفرديّة. وحتى من آذوني، لربما يأتي يوم وأغفر لهم، ولكن حينما يتعلق الأمر بأهلي، فأيّ شخص يؤذيهم يتصدّر قائمة أعدائي فوراً! وما يعكّر صفوهم يغدو جحيمي الشخصيّ. عائلاتنا هم من يعنوننا بالدرجة الأولى والباقي أرقام مفيدة للإحصائيات"، نمدّ يداً لهم وحدهم، ويدنا الأخرى لمن تبقّى في العالم.

لربما لا أستطيع تعريف الحُبّ بصورة بليغة وموجزة، ولكنني أعرف تماماً ما هي العائلة، وباعتقادي أنه ليس ثمة تعريف للحبّ أبلغ منها. وطالما أعرف بأنّ عائلتي معافاة فأنا مثلهم معافاة. ما داموا في الدنيا، فالدنيا بخير، مهما بدت عكس ذلك. أبطالي المجانين الحقيقييّن في السرّ والعلن. كلّ خير وجمال في حياتي مردودٌ لهم فضله أولاً وأخيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.