شعار قسم مدونات

بين براءة الحلم وظلمة الكابوس.. مدن صديقة للطفل

أطفال
يتميز الأطفال بأحلامهم البريئة، وأستأذن القارئ في دعوته لاستكشاف واحد من أهم أحلامهم، وهو الاشتراك في بناء مدنهم ومبانيهم حتى تنشأعلاقة حب وانتماء مع كل بقعة من وطنهم. 

يندهش الكثيرون من أن التعريف العلمي لكلمة طفل -وتبعا لمحددات الأمم المتحدة- يضم الفئة العمرية من الميلاد إلى 18عاما، كما يستمر اندهاشنا حين يفقد الطفل أهميته في المجتمعات العربية، بالرغم من كونه الفئة الأكثر عددا، حيث يشكل الأطفال في العالم العربي نسبة تزيد عن النصف من إجمالي عدد السكان، وهو جزء لا يمكن الاستهانة به مطلقا كمكون من مكونات المجتمع. هنا يبرز التساؤل: لماذا تخطط المدن في العالم العربي دون الالتفات إلى احتياجات الأطفال في مدينتهم؟ والأكثر أهمية، كيف يمكن أن تتحول المدن إلى مدن صديقة للطفل؟
 

إن كل المشاهد حولنا في العالم العربي تشير إلى أن الطفل أصبح أسيرا للشاشة بكل أنواعها: شاشة التلفاز والكمبيوتر والموبيل وألعاب الفيديو وقلّت علاقته بالهواء النقي والحدائق، وازدادت معدلات السمنة إلى نسب غير مسبوقة.

على الرغم من أن الأطفال يمثلون الغالبية إلا أن هناك معوقات وحدودا لفهم آرائهم فيما يحتاجونه في المدينة، خاصة وأنه تبعا لإحصاءات منظمة اليونيسيف- فبحلول عام 2025 فإن ستة من كل عشرة أطفال في العالم سيكونون من سكان المدن. ومعظم المدن محليا وإقليميا تصمم كعوالم للبالغين بواسطة البالغين، وهو إجراء خاطئ كلية، فلنا أن نتخيل مدينة يتم تجاهل احتياجات ورغبات أكثر من نصف سكانها!

إن الدراسات -وخاصة في مجال علم النفس- أثبتت أن البيئة المبنية تؤثر بالقطع على التربية النفسية والحضارية للإنسان عامة وللأطفال خاصة، ويكفينا مقولة ونستون تشرشل: "نحن نبني منازلنا ثم تبنينا منازلنا فيما بعد". ولكن الطفل العربي يعاني مما يعرف بأمراض التحضر، فخطورة إهمال مكان للطفل في المدينة لا يرتبط فقط بحساسية الأطفال وسرعة تأثرهم بالأمراض والمخاطر، بل إنه يهدد مستقبلهم، وبالتالي مستقبل بلادهم.

إن كل المشاهد حولنا في العالم العربي تشير إلى أن الطفل أصبح أسيرا للشاشة بكل أنواعها: شاشة التلفاز والكمبيوتر والموبيل وألعاب الفيديو وقلّت علاقته بالهواء النقي والحدائق، وازدادت معدلات السمنة إلى نسب غير مسبوقة، بل إن بلدا خليجيا واعدا مثل الكويت به أعلى نسبة بدانة أطفال في العالم.  جزء آخر من أطفال العالم العربي يعاني العزلة والحرب والهرب والقلق والفقد وتصنيفات أخرى من مشكلات عنيفة تثير قلقا عميقا على مستقبله واتزانه.
 

المدينة كوعاء للعب
هنا تأتي أهمية المدينة الحاضنة للطفل، المؤمنة بقدراته المحفزة لعقله وحواسه وعواطفه، واللعب هو النشاط الأكثر أهمية في حياة الطفل، وهو المسئول عن تطوره العقلي والذهني والعاطفي، وهو نشاط لا يجب أن يقتصر فقط على أماكن اللعب، ولكنه يجب أن يمتد، بل إن بعض نظريات التعليم تؤكد أن التعلم يمكن أن يتم من خلال اللعب. والواقع أن الشارع يمكن أن يُرى كحيز ملائم لاحتواء الأطفال وأنشطتهم، شريطة أن يصمم بصورة تمنح الخصوصية والأمان والتنوع، وشريطة ألا نرى الشارع كفراغ لأماكن انتظار السيارات وتخزين حاويات القمامة. 
 

لقد أدهش الأطفال الكثير من خبراء التخطيط والتنمية بآرائهم المبدعة والناضجة عندما أتيحت لهم الفرصة للمشاركة الفعالة في تصميم وتخطيط بيئاتهم ومدنهم، بل إن بعض هؤلاء الخبراء أقروا بأن تلك الأفكار والأطروحات التي قدمها الأطفال كانت من الاستحالة أن يقترحها البالغون.

إذن من المهم أن نجيب على أسئلة جوهرية، منها ما صفات المدن الإيجابية والصديقة للطفل؟ وما المدخل الجديد للتخطيط ولإعادة صياغة دور المخططين والمصممين العمرانيين لإنتاج فراغات في المدينة تحفز الأطفال وتسعدهم وتحترم احتياجاتهم؟ إن الفكرة الرئيسية في النقاش هي: هل من الممكن للأطفال أن يتفاعلوا مع المدينة بأمان واستقلالية دون الاعتماد على البالغين؟ وإلى أي مدى تساعد أو تعوق المدينة وجود الأطفال في فراغاتها وشوارعها؟ 

إذن يجب توفير الخدمات التي يحتاجها الطفل، كالمدارس ودور الحضانة والمراكز الثقافية والصالات الرياضية والمكتبات ومسارح الطفل ومتاحفه والحدائق وأماكن اللعب ومستشفيات الطفل، ومراكزه الصحية ومؤسسات رعاية الأطفال وغيرها. إن لهذه الخدمات معايير غالبا ً ما تكون مختلفة عما يقابلها من خدمات للبالغين، من أهمها المسافة التي تفصلها عن الأحياء السكنية المحيطة بها. وكل الخدمات المقدمة للطفل في المدينة يجب أن تتواجد في نطاق شبكة مرور آمنة، لا يحتاج فيها الطفل إلى استخدام وسائل نقل معينة، بل يمكن بلوغها ضمن مسارات مشاة آمنة بعيدة عن حركة السيارات.

فمن يملك الأولوية في مدننا، المشاة وخاصة الطفل؟ أم السيارة؟ هل من الممكن للأطفال من أن يتفاعلوا مع المدينة بأمان واستقلالية دون الاعتماد على البالغين؟ وإلى أي مدى تساعد أو تعيق المدينة وجود الأطفال في فراغاتها وشوارعها؟ وهنا تأتي أهمية الحضور الفعلي للطفل في مجمل النسيج العمراني للمدينة، وفي الشكل العام لمكونات المدينة ومبانيها، وكذلك في التفاصيل الصغيرة والكبيرة في كل مرافق المدينة التي من المحتمل أن يكون الطفل أحد مستخدميها.

مشاركة الأطفال في العملية التخطيطية
لقد أدهش الأطفال الكثير من خبراء التخطيط والتنمية بآرائهم المبدعة والناضجة عندما أتيحت لهم الفرصة للمشاركة الفعالة في تصميم وتخطيط بيئاتهم ومدنهم، بل إن بعض هؤلاء الخبراء أقروا بأن تلك الأفكار والأطروحات التي قدمها الأطفال كانت من الاستحالة أن يقترحها البالغون برؤيتهم المحدودة والمرتبطة بالواقع، بعكس الأطفال المحلقين في عوالم الخيال والإبداع. 
 

في فبراير 2012، أصدرت منظمة اليونيسف تحذّيرا بعنوان: المدن تخذل الأطفال، ونبهت إلى ضرورة إعادة توجيه العملية التخطيطية والعمرانية لتستجيب لمتطلبات أطفال القرن الواحد والعشرين وأهمية إدماج الطفل كشريك رئيسي في العملية التخطيطية للمدن المعاصرة.

السماح للأطفال بالتفاعل الإيجابي مع مدنهم لن يحسن فقط قدراتهم الجسمانية والعقلية والعاطفية، ولكنه سيساهم أيضا في خلق إحساس قوي وصادق بالانتماء والولاء لبلادهم.

إن الأطفال يجب أن يكون لهم قول في نوعية البيئات المخصصة لمعيشتهم ولعبهم وتعليمهم، ومن ثم نطمئن إلى أن تلك البيئات هي حقا صديقة ومحبة للطفل. إن الأطفال لهم عالمهم الخاص، وفي كثير من الأحيان يصعب على البالغين التوافق مع خيالهم وإدراكهم بالعالم من حولهم. الجانب الأكثر أهمية في إشراك الأطفال أنه أفضل طريقة لتعليمهم مسئوليتهم كمواطنين فاعلين محبين لوطنهم، وأن نغرز فيهم حب المساهمة في تشكيل البلد وصياغته، وبالتالي تتطور علاقة الانتماء، وتستمر العلاقة بصورة إيجابية عند انتقالهم من مراحل الطفولة إلى المراهقة ثم النضج.

إن أطفال اليوم أكثر ذكاء من ذي قبل، كما أنهم أكثر استقلالية، ويطالبون بالكثير، وأحيانا يصبحون فرديين وانعزاليين، ولكن في الوقت ذاته هم نصف المجتمع الحالي، وهم كل مستقبله القريب؛ ولذا فإن إيجاد الصيغ والآليات التي تمكننا من استيعاب طاقاتهم وإشراكهم سيجعل مدن العرب الحالية والجديدة مدنا آمنة وصديقة للطفل. الهدف من هذا المقال توضيح الفارق بين إنشاء مشروعات حدائقية منعزلة تستهدف الطفل ضمن باقي قطاعات المجتمع وبين الرؤية والكيفية التي تجعل المدينة ككل صديقة للطفل مرحبة به محتضنة لأنشطته.

إن الدول التي تسعى جاهدة إلى التطور مطالبة اليوم بكل جدية بتحويل مدنها وكل بيئاتها العمرانية والمعمارية إلى بيئات صديقة للطفل تلهمه وتعلمه وتحفزه وتدعوه للتساؤل وتشجعه على الإبداع والتميز، ومن ثم فإن تحول مدن العرب إلى مدن صديقة للطفل يجب أن يرى كهدف استراتيجي للتنمية، فالسماح للأطفال بالتفاعل الإيجابي مع مدنهم لن يحسن فقط قدراتهم الجسمانية والعقلية والعاطفية، ولكنه سيساهم أيضا في خلق إحساس قوي وصادق بالانتماء والولاء لبلادهم. هذا الإحساس المطلوب توافره للغاية في الأجيال الجديدة التي ستعيش في عالم ما بعد العولمة وفي مجتمع عالمي متواثب ومتطور ومتعدد ومفتوح وشديد التنافسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.