شعار قسم مدونات

مع الدولة حتى الرصاصة الأخيرة "2"

blogs - man Revolution Egypt
"الدولة.. إله جديد"
إن كان الغرب قد تخلص من سطوة الكنيسة التي كانت تحكم باسم الدين فإنه في طور ذلك الخلاص قد خلق وحشًا أو إلهًا جديدًا ألا وهو "الدولة". فنطاق فعل الدولة غير ثابت بل إنه متغير بشكل دائم كلما احتاج الأمر إلى تدخلها، فتجدها سارحة مارحة في المجتمع بلا حساب وبلا رقيب تضعفه وتقيده وتسيطر عليه، فلا تتمكن من الفصل بوضوح بين ما هو يخص الدولة وما يخص المجتمع وهذا المزج هو مزج مقصود بكل تأكيد.

الدولة في أغلب النظريات الغربية كانت أداة من أجل غاية أسمى، لكن بدلًا من أن تستمر الدولة كأداة، أصبحت هي الغاية فأصبح وجودها من أجل الوجود لا من أجل أي هدف آخر.

إذ أصبحت تعرف نفسها من خلال نفسها لا من خلال أفرادها أو الفكرة التي تقوم عليها فأصبح المنتمي لهذه الدولة مواطنا يعرِّف نفسه من خلالها وأصبح وجودها ضرورة لوجود الجنسية والشعب والمجتمع مما يجعلها القوة القاهرة الأولى والأخيرة.

حتى إذا نظرنا إلى أفراد أي تجمع أو تنظيم حداثي -الدولة أوضحهم طبعًا- سنجدهم يفهمون ويعرفون نفسهم كمنتج لهذا الكيان، فأفراد الدولة مثلًا يعرفون أنفسهم كمنتج للدولة وجودهم من وجودها وإختفاءها يعني إختفاءهم. هذا جانب من الجوانب، أما من جانب آخر فإن هذه المؤسسات أو التنظيمات الحداثية وعلى رأسهم الدولة، مستعدة للتضحية بأفرادها من أجل أن تبقى هي فتصبح بذلك هي الهدف التي يضحى بالأخضر واليابس الأشياء من أجله.

رغم ما توفره الحاضنة الإسلامية من أفكار وفلسفة لها طابعٌ ذاتي مميز وحسٌ خاص يمكنها أن تكون منطلقًا حقيقيًا لبناء حضاري يناسب خصوصية العالم العربي والإسلامي، إلا أن القائمين على التنظيمات الإسلامية قد اتخذوا وساروا وراء منهج الدولة يدًا بيد وذراعًا بذراع

هذه الدولة ،التي تضحي بكل ما دونها، كيان متوحش لكن وحشيتها لا تظهر للعلن إلا في أوقات الشدة. على سبيل المثال، تضحي الدولة في سوريا بأراضيها التي هي مصدر أساسي من مصادر سيادتها وهي التي يجب أن تقاتل على كل شبر منها في سبيل أن تبقى هي، وفي مصر لا مشكلة في قصف بيوت المواطنين العزل في سيناء من أجل حماية الدولة.

وقد يجادل البعض بنموذج الدولة الحديثة في فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن القياس في وقت رخائها وهيمنتها الساحقة قد يؤدي إلى عدم وضوح مكامن الخلل والفداحة، إلا أن هناك مثال يبسط الأمور جدًا. ما الذي يجبر الدول المتقدمة، أن ترسل مواطنيها إلى الحرب في أفغانستان والعراق وسوريا ؟ لماذا تضحي الدولة بأبنائها في حروب كتلك ؟ لماذا تقوم الدولة الغربية المنعمة بالتضحية بمواطنيها ومواطنينا في العراق وسوريا وغيرها من المناطق بالمقام الأول من أجل أن تبقي مهيمنة؟
وفي المقام الثاني، ما هي العقيدة التي يقتل هؤلاء من أجلها، سوى أنهم يُقدَمون كقربان جديد إلى الدولة.. إلى الإله الجديد.

هذه ذاتية المفرطة أغرقت فيها الدولة نفسها جعلتها تتنكر لمواطنيها. فيصبح المنتمي لهذه الدولة مواطنًا ويعرّف نفسه من خلالها لا العكس. فغدت العلاقة معكوسة حيث أن الدولة ضرورة لوجود الفرد وجنسيته وبالتبعية فإنها هي التي تنشئ الأمة والمجتمع وليس العكس مما يعطي الدولة اليد العليا ويجلعها القوة القاهرة الأولى والأشرس والأكثر عنفًا في المعادلة.

"دولة مدنية بمرجعية إسلامية.. حقًا؟"
هذا الفكر الذي ناقشناه لتونا ليس خاصًا بالدولة وحسب بل يتسع ليشمل الدولة وبناتها من الكيانات الحداثية تركيبًا وفلسفةً والإسلامية إسمًا وشعارًا .

فرغم ما توفره الحاضنة الإسلامية من أفكار وفلسفة لها طابعٌ ذاتي مميز وحسٌ خاص يمكنها أن تكون منطلقًا حقيقيًا لبناء حضاري يناسب خصوصية العالم العربي والإسلامي، إلا أن القائمين على التنظيمات الإسلامية قد اتخذوا وساروا وراء منهج الدولة يدًا بيد وذراعًا بذراع. فتشربوا نفس القيم التي تقوم عليها الدولة ولو بمسميات مختلفة وتشربوا ذات الفلسفة وإن لم يدروا بل إن الدولة قد سيطرت حتى على خيالهم وأحلامهم، فصاروا لا يتخيلون أنفسهم إلا تحت مظلة الدولة ولا يحلمون سوى بدولة إسلامية أو دولة مدنية بمرجعية إسلامية، كرد فعل عكسي على الدولة العلمانية القائمة، دون أن يفكروا للحظة في معنى الكلمة، التي لا يمكن تمريرها هكذا دون رقيب ولا حسيب، أو يدركوا ماهية النطاق المركزي للدولة والنطاق المركزي للإسلام الذي يسعون جاهدين لتطبيقه.

ليس فقط السير وراء الدولة هو ما أصيبت به هذه التنظيمات بل أيضًا تشربها لجزء كبير من فلسفتها واستيرادها بنيتها، فترى أفراد التنظيمات الإسلامية مثل "جماعة الإخوان المسلمين" يعرفون أنفسهم أيضًا وكأنهم مواطني دولة ما، يعرفون أنفسهم من خلال التنظيم ويشعرون بذاتهم بإنتمائهم إليه لا بانتمائهم إلى الفكرة التي يعتنقونها أو التي أدت بالأساس إلى إقامة التنظيم، كل هذا بينما لا يَعرفهم التنظيم أصلًا وينظر إليهم كعدد أو كمجرد أداة يستخدمها من أجل الحفاظ على نفسه. فتنقلب المعادلة هنا مرة أخرى، فبدلًا من أن يكون التنظيم مجرد أداة في يد أفراده يستخدمونها من أجل تحقيق غايتهم وأهدافهم يتحول بقاء التنظيم على قيد الحياة وحفظ عقده من الإنفراط هو الهدف الذي تُراق في سبيله الدماء وتسجن من أجله الأرواح، دون أي حديث صريح أو تلميح إلى الفكرة نفسها. تعريف النفس هذا من خلال التنظيم، يجعل الأفراد يعيشون في حالة رعب دائمة من أن يختفي التنظيم لأن ذلك يعني إختفائهم أيضًا إذ أنهم ربطوا أنفسهم وحياتهم وأفكارهم بالتنظيم وابتعدوا عن الفكرة. بل ومن المفارقات اللطيفة أن يأتي تقسيم التنظيم علي نفس التقسم الجيوغرافي للدولة وبنفس تقسيم المناطق.

ويمكن في حالة جماعة الإخوان المسلمين تحديدًا رؤية ما ذكرته أنفًا أنه حين تعرض التنظيم أو الكيان لخطر وجودي فإنه يتحوش ويضحي بأعضائه بل وبالكثير من مبادئه التي لطالما تغنى بها من أجل أن يبقى على قيد الحياة حتى ولو كان منعدم الفاعلية وبلا أي جدوى كما هو الحال تمامًا في الدولة المصرية الموجودة لكن دونما أي فاعلية تذكر. وهنا يظهر تشرب الإسلاميين لكثير مما يقومون بنقده، حيث ركبوا ركب الحداثة دون علم ، فصاروا يواجهون المشروع الغربي الحداثي بتنظيمات حداثية تستلهم الفلسفة الغربية مرجعية لها ، فإن كان الفرد يضحى به في المشروع الغربي من أجل حفظ كيان ما أو مصلحة معينة، فإن هذا لا يتوافق مع الفلسفة الإسلامية حيث يضحي المرء بنفسه من أجل عقيدة يدين بها أو من أجل نعيم أخروي دائم يؤمن أنه ينتظره وليس من أجل تنظيم أو دولة. بل ما زاد الطين بلة، أن الدولة صارت في حاجة إلى تلك التنظيمات أيضًا لتخلق مشروعية لبقائها وتستخدهم كفزاعة تخوف بها الجماهير من مواجهة الدولة. ورغم ذلك تبقى تلك التنظيمات متمسكة ومطالبة بالحفاظ على الدولة حتى الرصاصة الأخيرة التي تطلقها الدولة عليهم.

المحصلة، تحيا الكيانات والتنظيمات الإسلامية الضخمة الآن وقد تفشى فيها المرض وصار من شبه المستحيل استئصاله، وتبقى نظرتنا ترفض التضحية بالروح من أجل المادة فنرفض رفضًا قاطعًا بذل الوسع من أجل مد عمر تنظيمات تجاوزها الزمن. ولكننا في الوقت ذاته نعلن رفضنا استمرار هذه التنظيمات ونطالب بحلها وفرطِ عقد بيروقراطيتها دونما تفريط في تلك القوة البشرية الكامنة داخلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.