شعار قسم مدونات

اقتصاد الحرب في اليمن (2)

A black market petrol vendor waits for customers on a street during an ongoing fuel crisis that has been continuing for several months now, in Yemen's capital Sanaa November 4, 2015. REUTERS/Khaled Abdullah
(1)
من الاقتصاد الرسمي إلى اقتصاد السوق السوداء
ذكرت في مدونتي السابقة عن اقتصاد الحرب في اليمن بأن الاقتصاد اليمني لم يكن سويا، بل كان اقتصاد حرب منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، وأسس للتشوهات البالغة التي أصابت الاقتصاد فيما بعد انقلاب سبتمبر 2014.
 

اجتاح الحوثيون صنعاء في سبتمبر 2014 وامتدوا بعدها إلى بقية محافظات الجمهورية انطلاقا من شعارات اقتصادية، مطالبين بإلغاء الزيادة على أسعار المشتقات النفطية وإسقاط الحكومة التي أقرتها في منتصف 2014، تبع ذلك انهيار متسارع للاقتصاد اليمني، وأبرز تجليات هذا الانهيار كان استنفاذ احتياط النقد الاجنبي وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، والاختفاء المفاجئ للعملة المحلية وما تبعه من عجز البنك المركزي عن سداد رواتب موظفي القطاع العام منذ أغسطس 2016.
 

من جانب آخر سيطرة الحوثيون على المؤسسات الإيرادية كالموانئ والضرائب وغيرها مكنهم من اقتطاع جزء من هذه الإيرادات مباشرة قبل وصولها لخزينة الدولة.

بالإمكان تحليل هذا الانهيار الاقتصادي من خلال النظر إلى السوق السوداء وكيف حلت محل الاقتصاد الرسمي، وتغول السوق السوداء فيما بعد سبتمبر 2014 أمر مركب وله عناصر متداخلة، ابتداء من استيلاء الحوثيون على مؤسسات القرار الاقتصادي في اليمن، وتسخيرها لخدمة حربهم ومشروعهم، يليه تلاشي إيرادات الدولة واستنفاذ احتياطي النقد الأجنبي، وهروب رؤوس الأموال المؤسسية من البلد وظهور أثرياء مستجدين بأدوات بدائية، وفقدان الثقة في النظام المصرفي وانتشار أسواق المساعدات الخارجية.
 

لم يكن من الصعب على الحوثيين إحكام قبضتهم على مؤسسات القرار الاقتصادي في اليمن، فالمركزية المفرطة وضعت محركات الاقتصاد اليمني جميعها في صنعاء وجعلت من فروعها في بقية محافظات اليمن مجرد مؤسسات صرف وحوالات، فاحتياطي النقد المحلي كانت في صنعاء والحديدة ومنها يتم تغذية بقية محافظات اليمن، وقد صارت هذه المراكز بسهولة إلى أيدي الحوثيين، وبيانات الدولة وماليتها أيضا حصرت وحوصرت في صنعاء..
 

لم تكن الهدنة الاقتصادية المعلنة خلال أكثر من 18 شهر مانعا لاستنزاف الحوثيين للموارد العامة والمال العام ، فالميزانية اليمنية غير واضحة خاصة في المؤسسة العسكرية والتي عادة تظهر في كشف الميزانية كرقم واحد، وكشوفات الوظيفة العامة غير منضبطة وفيها أسماء وهمية كثيرة، أي أن إنفاق البنك المركزي على أساس آخر ميزانية للحكومة في 2014 كان فيه ثغرات واسعة لاستيلاء الحوثيين على نصيب من هذا الصرف، وهو ما ظهر في وثائق مسربة توضح توجيه الحوثيين للمؤسسات الرسمية بتغطية عدد من أنشطتهم الحربية من ميزانياتها.
 

من جانب آخر سيطرة الحوثيون على المؤسسات الإيرادية كالموانئ والضرائب وغيرها مكنهم من اقتطاع جزء من هذه الإيرادات مباشرة قبل وصولها لخزينة الدولة، بالإضافة إلى ما نقله مسئولي الحكومة الشرعية عن مخصصات المجهود الحربي التي كانت تصرف من البنك المركزي دون قيود محاسبية بواقع 25 مليار ريال يمني شهريا، وبإجمالي 400 مليار ريال يمني.
 

هذا الجانب أدى إلى تكنيز ثروة كبيرة لدى الحوثيين، ونظرا للفساد المستشري داخل الحركة فقد ظهر أثرياء مستجدين يحركون النشاط الاقتصادي داخل اليمن ويتحكمون فيه، رافق هذا الأمر تطورين هامين؛ هروب رؤوس الأموال إلى الخارج وقرار تعويم المشتقات النفطية. وكما يُقال فإن رأس المال جبان، ونتيجة للحرب فقد هربت رؤوس الأموال إلى الخارج وقلصت المؤسسات العريقة من نشاطها الاقتصادي.
 

كان المفترض أن يؤدي تعويم أسعار المشتقات النفطية إلى تخفيف العبء عن البنك المركزي، لكن على العكس كان أحد أهم أدوات استنزاف احتياطي النقد الأجنبي وحجز العملة المحلية في السوق السوداء.

وبجانب ما ترتب عن ذلك من فقدان فئة واسعة من المجتمع لأعمالها ولمصادر دخلها واستنزاف العملة الاجنبية، ترتب عليه أيضا انتقال النشاط الاقتصادي من العمل المؤسسي في إطار دورة النقد والمؤسسات البنكية، إلى نشاط بدائي يعتمد على تخزين الأموال في البيوت أو تحويلها إلى أصول لضمان قيمتها، فالأثرياء المستجدين لم ينشئوا مؤسسات نظامية، وإنما انخرطوا في النشاط الاقتصادي بعقلية الدكاكين الصغيرة.
 

قرار تعويم أسعار المشتقات كان أحد شواهد انهيار الدولة في اليمن، فمنذ سبتمبر 2014 اقتصرت علاقة الدولة بالمواطن على ثلاثة جوانب، أولا صرف مرتبات موظفي القطاع العام، وثانيا دعم قيمة الغذاء المشترى من الخارج، وثالثا دعم قيمة المحروقات -والتي كانت معدومة إلى حد كبير-، تعويم أسعار المشتقات النفطية قُصد به نقل إدارة سوق المحروقات بالكامل من الدولة إلى القطاع الخاص، ولم يخضع إلى أي معايير تنظيمية، ومع توقف إنتاج النفط في اليمن، انتعش سوق استيراد المحروقات من الخارج وبيعه في الداخل بأسعار غير منتظمة ومتفاوتة وبأرباح خيالية، وصار مرتعا للفساد والثراء، ومصدرا من مصادر تمويل الحرب.
 

كان المفترض أن يؤدي تعويم أسعار المشتقات النفطية إلى تخفيف العبء عن البنك المركزي فيما يتعلق بدعمه لأسعارها في السوق المحلية، لكن على العكس كان أحد أهم أدوات استنزاف احتياطي النقد الأجنبي وحجز العملة المحلية في السوق السوداء، فاضطر البنك المركزي إلى تغطية قيمة المستورد من المشتقات النفطية بالدولار، بينما تحتجز السوق السوداء للمشتقات النفطية العملة المحلية، ومن جانب آخر لا توجد رقابة على استيراد المشتقات النفطية، وبهذا يقدم آلية سهلة لتهريب الأموال بعمليات تجارة خارجية وهمية.
 

تعاظمت الأزمة الإنسانية في اليمن جراء الحرب، وبحسب آخر إحصائيات الأمم المتحدة فإن ثمانين بالمائة من اليمنيين أصبحوا بحاجة إلى المساعدات الإنسانية "أي ما يُقارب 21 مليون نسمة" ومع هذه الأرقام الصادمة تدفقت المساعدات الإنسانية من مختلف الجهات ومختلف السلع الأساسية كالدواء والغذاء والمحروقات، وكان لها دور أساسي في تخفيف معاناة الإنسان اليمني وتمكينه من أبسط مقومات الحياة، رافق دخول المساعدات الإنسانية نشأة سوق المساعدات الخارجية، فجزء من هذه المساعدات وجد طريقة إلى السوق وصار يُباع بأسعار مختلفة، ونظرا لأن الاستيلاء على المساعدات الخارجية كان بطرق ملتوية، فإن المكان الأنسب لتداولها هي السوق السوداء، وهو ما ساهم في تغولها.
 

فرضية إخفاء الحوثيون لكميات كبيرة من النقد لا يمكن تجاهلها خاصة وأنه على الرغم من عجز البنك المركزي في صنعاء عن الإيفاء بالتزاماته لموظفي الدولة مازالوا قادرين على تمويل حروبهم.

(2)
الريال اليمني خرج ولم يعد
في شهر يونيو 2016 تفاجئ الموظفين باستلام رواتبهم بعملة مهترئة، حقيقة كانت هذه العملة التالفة التي ينبغي على البنك المركزي إحراقها، لكن ونظرا لأزمة السيولة المحلية اضطر لإخراجها لدفع الرواتب، وهذا كان مفاجئا جدا لكثيرين، فما كان متوقعا هو اختفاء العملة الأجنبية وتراكم العملة المحلية.
 

المعادلة المنطقية تقول بأن ما تم استنزافه من احتياطي النقد الأجنبي لسداد قيمة المشتريات من الخارج، كان ينبغي أن ينتج عنه تكدس العملة المحلية في خزائن البنك المركزي في الداخل، حيث أن قيمة ما دفعه بالعملة الأجنبية سيحصله بالعملة المحلية، تقلص احتياط النقد الأجنبي من 5.2 مليار دولار إلى 700 مليون دولار، في المقابل فرغت خزائن البنك المركزي من العملة المحلية. قد يعزو البعض ذلك إلى عدم طباعة عملة جديدة لتغطية العجز في السيولة المحلية، لكن إخراج العملة التالفة أدى هذا الغرض وكان المفترض أن يكون البنك قادرا على الإيفاء بالتزاماته لفترة أطول بعد إخراجها.
 

برأيي السبب الأساس هو تغول السوق السوداء، فقد احتجزت العملة المحلية بشكل شبه كلي داخلها، ففي مقابلة لمحافظ البنك المركزي السابق بن همام تحدث عن أن تريليون وثلاثمائة مليار ريال يمني متداولة في السوق، أيضا فرضية إخفاء الحوثيون لكميات كبيرة من النقد لا يمكن تجاهلها خاصة وأنه على الرغم من عجز البنك المركزي في صنعاء عن الإيفاء بالتزاماته لموظفي الدولة مازالوا قادرين على تمويل حروبهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.