شعار قسم مدونات

متى آخر مرة حضنك والدك فيها؟

blogs - father

صعدت السلالم ذات الإنارة الخافتة وأنا أتخيل جسده الفارع الطول الذي كان يمر كل يوم منها، لأزيد من تسع وثلاثين سنة. اعترتني قشعريرة حادة، كان هنا، ولد وعاش وتزوج وأنجب هنا ومات فجأة في نفس المنزل الذي صرخ فيه أول مرة بعدما اكتسحت ذرات الأوكسيجين رئتيه الفتيتين. دخلت الغرفة التي بها أرملته وأولاده، والتي كان يجلس بها معظم وقته أو معظم حياته التي لم يكتب لها أن تدوم أكثر من أربعين سنة. كانت زوجته واقفة تنتظر، عانقتها وقدمت عزائي.

 

كلمات أعلم جيدا أنها لا تساوي شيئا مقارنة مع الصرح الذي انهار في قلبها وكيانها كله، لكنها خرجت مسترسلة من فاهي كما يقولها كل الناس الذين يريدون أن يقدموا التعازي لشخص فقد عزيزا على حين غفلة.  كان ابنه الأوسط ذات الثماني سنوات يحضر تمارينه، والأصغر نائما بينما جاءت البنت البكر ذات العشر سنين إلي فاتحة ذراعيها لتحضنني. قبل أن يموت ناداها دون إخوتها الذكور، قال لها "أنا سأموت يا ابنتي، أعرف أنني سأموت، لا تحزني، لا تبكي أرجوك، حزنك سيؤلمني كثيرا" حضن جسمها الضئيل ثم مات. كانت تلك آخر كلمات نطق بها قبل أن يرحل. وكان ذلك هو آخر حضن يحضنها والدها. 

 

لم تفلح وهي الشابة ذات الثلاثين سنة أن تتذكر متى كانت آخر مرة حضنها والدها، مررت أصابعها الطويلة على وجهها وشعرها، صمتت ثم قالت لي "ولا مرة، هو لم يسألني مطلقا عن مستواي الدراسي، لم يأبه بحصولي على الماجستير وحضر يوم ناقشت أطروحة الدكتوراه بطلب وإلحاح من أمي كجميع الناس الآخرين، لكنه لم يحضني قط، لا بل لم يُربت على كتفي قط" أزاحت كتابها عن الطاولة في محاولة منها للتمويه وإخفاء الشعور الغريب الذي انتابها حين تذكرت أنها لم تنعم بحضن أبوي قط، ثم قالت لي "أنا أعذره، كان ينتظر أن أُنجَبَ ذكرا، لكن أمي ملأت فراشه بالبنت الخامسة على التوالي ، أبي معذور، أنا أتفهمه". سكتت برهة ثم استرسلت "أتدرين شيئا؟ أخبرتني جدتي أنه عندما ولدت ورغم أنه كان غنيا إلا أنه منع نساء البيت من الزغاريد ولم يعطي الإذن بأن تذبح شاة. ذبح عوضها دجاجة، أتستوعبين؟ دجاجة.. وطرد النسوة المُباركات من البيت." سالت دمعة حارقة على وجنتها اليمنى. استأذنت بالرحيل، حملت كتابها،ثم ذابت وسط الزحام. 

 

أخبرني ذات يوم: "قبل أن أرحل، وخلال غربتي التي امتدت عقدين من الزمن، كل ما كان ينقصني هو حضن والدي، كنت أحلم أن أحضنه وأشكره وأفعل المستحيل لأجله لكنه كان رجلا صلبا، لم يسمح لي بذلك. كان يبعدني كلما هممت بمشاكسته أو احتضانه. مات والدي ولم أحضنه قط. وذلك ما يحز في قلبي رغم أنني صرت جدَّا. اشتقت إلى والدي كثيرا، ربانا أنا وإخوتي السبع. كان ظهري الذي أتكئ عليه رغم أني غبت عنه كثيرا. كان يظن بأني أستعر منه لأنه كان إسكافيا لكنه لا يدري أنه كان قدوتي في المثابرة والصبر والكفاح، لكن للأسف رحل دون أن أحضنه. ولو مرة".

 

"أبي الذي انتظرني عشرين سنة من العقم، كان هناك جالسا على مقعد في قاعة انتظار المستشفى، جاءته الممرضة متهادية الخطى 

"أنت فلان بن علان؟ "

 "نعم."

 كنت تتمنى قدوم صبي أو أنثى؟"

 " تلك إرادة الله يا ابنتي."

 " هنيئا هي أنثى …وليس الذكر كالأنثى. " 

 

الأب هو الظهر الذي يستند عليه الإنسان وقت الضعف، لإن مات كسر الظهر، هو البطل الخارق والحضن الدافئ الذي يقي أطفاله من تقلبات الزمان، هو الجناح الذي يحمل أبناءه إلى أن يرحل عن الدنيا

استرسلت حديثها بعدما ارتشفت عصيرها " أبي هو الحياة، لم يضربني قط، لم ينهرني قط، كان أول صديق ومعلم وحبيب وكل شيء. هو من علمني القراءة والكتابة. رغم أنه أميّ لم يدرس قط. لا تتفاجئي! لم أعلم بذلك إلا عندما بلغت العاشرة من عمري. علمني أسماء الدول وعواصمها وأسماء السدود والمدن. حكى لي عن فلسطين وسوريا والعراق ومصر والجزائر والنكبة واللغة والهوية وكل شيء. علمني الكثير. كبرت وانتقلت إلى مدينة أخرى. اتصل بي مرة يبكي كالطفل، سألته بعد أن كاد قلبي أن ينقلع من مكانه "ما بها أمي؟" ليجيبني "لا شيء يا طفلتي. تركتِ البيت فارغا إلا من أغراضك التي تركت في غرفة نومك.." 

 

مرة أخرى سافرت خارج البلاد كيف أدرس، كان يتصل بي كل يوم من هاتفه ويطمئن علي رغم أن الفاتورة كانت غالية جدا. يوم عدت وجدته في المطار ينتظرني حاملا باقة ورد. عانقته وبكيت كأني بنت الخامسة أو أقل. أبي يمشط لي شعري ويجعل منه ظفائر متقونة، يدخل إلى غرفتي ليلا كي يضع الغطاء الذي رُمي أرضا علي. يخرج مع الرابعة صباحا ليجلب لي لوزا محمصا اشتهيته وأنا على فراش المرض. أبي هو الحياة. لا أدري كيف سأعيش بدونه. ثم بكت والبسمة تعلو محياها. 

 

" أنت لا تعرفين ماذا يعني أن تعتبر نفسك يتيما رغم أن لك أبا على قيد الحياة.. لا تطلبي مني زيارته بعد الآن."

"لكنه والدك، جيناتك منه وأنت من صلبه"

 

"كان الشارع أرحم بكثير منه. كان يضرب أمي كثيرا. تسبب في كسر رأسها وفكها مرتين لكنها سامحته ولم ترفع دعوة ضده في المحكمة. مرة كان سيخنقها فتدخلت لأثنيه عن فعله. رماني على الجدار وانا ابن الثامنة ثم طردني من البيت شر طردة. كنت أقضي الليل في الأقبية والعمارات المهجورة، كنت أبيع السجائر التي كنت أكرهها بسببه لأعيش إلى أن التحقت بالميتم. لولا الميتم لقتلني البرد، لاغتصبت من طرف تلك المخلوقات الآدمية التي كانت تخرج في الليل فقط. ليس أبي. لم يكن يوما كذلك. لم يحضني قط ولا أحس بأي انتماء له."

 

" لا. ولا مرة. لم يحضني قط. كان مشغولا بملاحقة النساء هنا وهناك وكانت أمي تعمل في المكتب وتقوم بأعمال البيت وتربينا أنا وأخواي وتصبر على ابتلائها برجل غير مسؤول البتة. أمي كانت كل شيء بالنسبة لنا. لكن الفراغ الذي يخلفه غياب الأب كبير جدا. تزوج بصديقة أمي ثم لم نره بعدها. بعد عشر سنين تزوجت صديقه الغني رغم أنه كان في سنه.  لم أنعم بحنان الأب يوما لذلك تزوجت صديقه القديم. كنت أميل إلى الرجال الأكبر سنا مني لهذا السبب أعتقد. لكن للأسف ذلك الفراغ الذي خلفه رحيله لم يملأ، سيظل فارغا دون أي ذكرى جميلة ولو حتى حضن قصير العمر. "

 

كانت شهادات استقيتها من أشخاص مختلفين حول آخر حضن أبوي حظوا به. كانت جل الشهادات محزنة للغاية. فراغ عاطفي كبير تعاني منها كل الأجيال تقريبا. عجز عن التعبير عن المشاعر الصادقة، عن الحب والامتنان، عقم الحوار وانعدامه، حواجز وأسوار عالية بنتها بعض التقاليد والعادات بين الآباء وذريتهم فلا هم استطاعوا النزول ولا الأبناء تسلقوا.

 

الأب هو الظهر الذي يستند عليه الإنسان وقت الضعف، لإن مات كسر الظهر، هو البطل الخارق والحضن الدافئ الذي يقي أطفاله من تقلبات الزمان، هو الجناح الذي يحمل أبناءه إلى أن يرحل عن الدنيا. هو نشيد وطني وأرض لا ينضب معين سخائها، هو الذي يجعل أبناءه يبدون صغارا رغم تقدمهم في السن، إن مات، شابوا فجأة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.