شعار قسم مدونات

صحافة ساعي البريد

blogs- صحافة

حتى يألفَ المتابعُ للأخبار ما لا يعقله، ويتفهم بعضَ التفاصيلِ الخبرية، التي يراها غيرَ دقيقة أو مبالغاً فيها، ورغمَ ذلك تُنشر في معظم وسائلِ الإعلامِ وخاصةً المحلية، وهي تتعدى ذلك بحسب متابعتِي لعمل الزملاء، لابدّ من معرفة طرقِ صياغتِها، وكيفيةِ وصولِها للتعميم. مع ظاهرة التكاثرِ التي تعيشها المؤسساتُ الإعلامية، لابدّ من كوادرَ تشغل تلك المؤسسات، وترفدها بالأعمال والإنتاج، ومن بين الكوادرِ العاملة، هي العيون التي تنتشر في المناطقِ التي تُوليها المؤسسة أهمية، هذه العيونُ تتمثل بالمراسل الإخباري أو المراسل الصحفي، والذي من صلب عمله نقلُ المعلومةِ الدقيقة وتوثيقُها ومتابعتُها بحسب الأهمية.
 

ولكثرة المؤسساتِ الإعلامية المهتمّة بالأخبار، تطلب أن يكون هناك عددٌ كبيرٌ من المراسلين، وكما هو معروفٌ، هناك مؤسساتٌ إعلاميةٌ تتبع لأحزاب وشركات وشخصيات تعمل بدرجة أقلّ من المهنية، ما يعني أنّ موظفيها يعملون بحسب ما تُمليه السياسةُ العامةُ للمؤسسة والمبنيةُ على متطلبات الجهةِ المموّلة، والحالُ كذلك بالنسبة للمؤسسات الحكومية التي يعمل موظفوها بالدرجةِ ذاتِها من المِهنية، وبحسب السياسةِ العامة للبلد.. وكلُّ ما تطرّقت إليه معلومٌ لدى الشارع.
 

إعلام الدوائر الحكوميةِ المدنية فأمرُهم لا يختلف كثيراً عن زملائهم في المؤسسة الأمنية في تسويق أخبارهم، يصرّح المسؤول شفهياً لهم، وهم بدورهم ينقلون الخبر عبر الرسائل إلى الإعلاميين.

صحافةُ ساعي البريد هو مصطلحٌ "ابتدعته" قبل قرابةِ الثلاث سنوات أو أكثر بقليل، وأطلقته على صحافة نقلِ الخبر، كما يرد من المرسل دون الاستقصاء عنه، أو معرفةِ مدى دقةِ المعلومات الواردة فيه "وهو مُعتمَدٌ في وسائل الإعلام العراقية"، ورغم أنّ المؤسسة التي يعمل فيها المراسل تُدرك في معظم الأحيان أنّ هذه الأخبارَ غيرُ دقيقة فإنها تعتمدها، بحجة أنّ هناك مصدراً رسمياً صرّح بها ونقلها مراسلُهم، وفي الحقيقة يُعتمد الخبرُ "لتحشية" النشرة، أو الصفحة الإخبارية وكذلك حتى يتم إشعارُ الجهة المرسلة بالاهتمام، خصوصاً أنّ قانونَ العمل الصحفي معطلٌ في العراق لذلك من الوارد جداً منعُ المؤسسةِ من تغطية الأنشطة المتعلقةِ بهذه الجهة إذا لم تتعاون.
 

خلال عملي مراسلاً إخبارياً في العراق، كنت ملزماً بالتعاون مع قسم الإعلام في كلّ مؤسسة، وخاصة الأمنيةَ والجهاتِ الحاكمةَ، حتى أحصلَ على أذونات التصويرِ والتغطياتِ والتصاريح، وواجب هذا القسمِ الرئيسيّ هو تبييضُ صورةِ المؤسسة، وعلى رأس ذلك الإدارة، وهذا الأمرُ مفهومٌ لدى الزملاء، والتواصل بين قسم إعلامِ المؤسسة و مراسلي المؤسساتِ الإعلاميةِ يكون عبر الهاتف، للتبليغ عن أيِّ خبر أو تصريح أو نشاط. إحدى المؤسساتِ الأمنية كانت ترسل الموقفَ اليوميَّ عبر رسائلَ نصيةٍ إلى الصحفيين، ليعاد إرسالُها بعد ذلك إلى المؤسسة الإعلامية، وهذا الأمرُ تعتمده معظم المؤسسات في إيصال المعلومةِ للإعلام، حتى ينشرَ الخبر بمجهود أقلّ وبصورة أوسع.
 

مسؤول إعلام هذه المؤسسة كان يرسل كلَّ يوم أخباراً في رسالته المعتادة، وبعد ذلك بساعةٍ يفتح المواقع الإخبارية ليجدَ خبرَه نُشر في تلك المواقع، ومضمون هذه الرسالة "قامت الجهة الأمنية التي يمثلها باعتقال عددٍ من المطلوبين، وكشف وإزالةِ عددٍ من العبوات الناسفة "لا يتعامل بالآحاد" سوى بأعداد السياراتِ الملغمةِ التي يكشفونها ويقومون بتفكيكها، كلَّ يوم رسالة، وكلَّ يوم إنجازات أمنية بكمية كبيرة، لو أحصيناها لوجدنا أنهم اعتقلوا الشعب مرتين، ووجدوا مشاجبَ سلاحِ الجيشين الروسي والأميركي معاً.
 

ورغم ذلك يتم نشر هذه الأخبار وبشكل يومي، حيث يستغل كل الأطراف سوءَ الوضع الأمنيّ لتمرير أخبارٍ كهذه، معتقدين بذلك أنهم يطمئنون الشارع بأنهم يعملون، أو أنّ بهذه الأخبار يمكن التغطيةُ على الفشل الأمني المستمر، طبعاً لم أحظَ يوماً بتصوير شيءٍ مما يذكر في تلك الرسائل، رغم مطالبتي بذلك عدة مرات، وذلك حتى أنقلَ خبراً متأكداً من صحته.
 

معظم الأخبار التي تطلعون عليها تُنقل من شخصٍ لآخر، ومن موقعٍ إلى موقع، وغالباً ليس للناقل أيُّ علمٍ بالتفاصيل، لأنّ الخبر بريدٌ يصل والسلام.

أما إعلام الدوائر الحكوميةِ المدنية فأمرُهم لا يختلف كثيراً عن زملائهم في المؤسسة الأمنية في تسويق أخبارهم، يصرّح المسؤول شفهياً لهم، وهم بدورهم ينقلون الخبر عبر الرسائل إلى الإعلاميين، يصاغ ذلك عادةً "صرّح فلان" أو "قال فلان في بيان له"، المؤسسة لم تسمع التصريح، ولم توجّه أي سؤال، ولا تعرف ما هو البيان الصادر ولا مناسبته! وبالطبع المراسلُ لم يسمع لكنه نقل البريدَ فحسب، لأن فلاناً يريد أن يظهر اسمه في نشرات الأخبار، وعادة بين الحين والآخر يتكفل المسؤولُ الإعلاميُّ للسيد فلان بإصدار التصاريح والبيانات ليبقى نجمُ سيده ساطعاً.
 

نقل المراسل للرسالة كما جاءت من مرسلها، أو نقل الخبر كما ورد من الجهة المرسلة إلى المؤسسة التي يعمل بها دون الاستقصاء عن صحة ودقةِ ما ورد في الرسالة أو الخبر، هو ما أعنيه بصحافة ساعي البريد، فالصحفيُّ هنا يأخذ دورَ النملة في نقل طعامٍ من نوعٍ واحدٍ، ولا يأخذ دورَ النحلةِ التي تجوب الأزهار، لتأخذ ما ينفعها من الطعام، إذ إنّ معظمَ المؤسساتِ تعتمد المصدرَ الرسميَّ "الحكوميّ" عادةً في المعلومة، ولا يتم اعتمادُ أطرافٍ أخرى في الحدث كشهود العيان وباقي المعنيين، وهذا الأمر يلزم به المراسل.
 

صحافةُ ساعي البريد جعلت من المهنة تنحو منحىً بعيداً عن الأصل في العمل، وفقدت نشراتُ الأخبار مصداقيةَ ما حصل من أحداثٍ وأقوال وأفعال، كما وخسرت السلطة الرابعة هيبتَها ومكانتها الحقيقية، والتي طالما كانت تستحقها، وصارت تسيّس المؤسسة الإعلامية ويُعبَث بالصحفيّ الموظف عندها، ويَحتال الجميعُ على المتابع، بل وصار لكل مؤسسةٍ إعلاميةٍ أجندةً خاصةً قد تستخدم تلك الأجندة للتسقيط والادّعاء والتآمر، فلا تستغربوا ذلك لأنه واقع حال.
 

معظم الأخبار التي تطلعون عليها تُنقل من شخصٍ لآخر، ومن موقعٍ إلى موقع، وغالباً ليس للناقل أيُّ علمٍ بالتفاصيل، لأنّ الخبر بريدٌ يصل والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.