شعار قسم مدونات

العلمانية ليست دينا جديد

blogs - ناس في الشارع
تميزت بعض المجتمعات تاريخيا بفهم و-تَفهُّم- بنى معرفية وأنساق فلسفية ونظريات علمية بالغة التعقيد والإبتهام، فاستثمرت فهمها لانتشال وضعها من وضع حضاري أدنى إلى آخر أرقى، غير أن مجتمعات أخرى تفسخ وعيها وتشرنق فكرها وهي تحاول فهم بضعة أفكار، دمغتها حينا بدمغة الانحلال وحينا آخر بدمغة الإلحاد، أي عدتها معولا يُخَرِّب نسق الفكر التقليدي لهذه المجتمعات المتقادمة.
مثال ذلك، ما قامت به المجتمعات العربية بمفهوم "العلمانية"، حيث أفرغته من محتواه الإنساني وشحنته بمضمون معادي للدين، في موقف يعكس أزمة حضارية أكثر من كونه سوء فهم لمصطلح هضمه العالم فهما وتطبيقا إلا الأعراب أصحاب الإسلام الحركي.

من منطلق مبدئي يعرفه الجميع -وليس فيه من العمق الشيء الكثير- وهو "فصل الدين عن الدولة" كأشهر تعريف للعلمانية، حيث وقع على المسلمين فيه أفهام كثيرة، لكن أشهر معترضاته ما يفصح عنه الإسلاميون من كون العلمانية دين جديد أهم أهدافه إقصاء الإسلام، وفصله عن الحياة، وأنه مصطلح ظهر في سياق تاريخي أوروبي مسيحي مبرر، غير أن لا مبرر لاستنباته في أرضنا، إلا تغريب المسلمين عن عقيدتهم، ومن ذلك كله فإن المسلمين مكتفين بدينهم حلا لمعضلات حياتهم، فالإسلام حل لكل المشاكل.

لا يستفرغ صاحب وعي سليم كبير وسع إذا أراد تبين تهافت هذه المعترضات، التي تسقط أمام التجربة والواقع الإيجابية للدول العلمانية، فلا يوجد مجتمع علماني واحد فوق البسيطة لا وجود للدين في حياته، بل الدين يُفصل عن السياسة فقط، ولا يُفصل عن المجتمع أو الأفراد، إذ يحصل هذا الفصل لمقتضى العدل والحفاظ على السلم، حيث لا يخلو مجتمع من تعدد في الأديان والطوائف والثقافات، حيث يحصل الخلاف حول من يحكم؟ ويؤدي إذا لم يحصل التوافق، إلى الصراع، الذي يُذهب الأمن ويُخرب العمران ويُدنس المقدس وتَتَدنى بسببه إنسانية البشر إلى ما دون البربرية، ذلك ما تحلحله العلمانية بأن تفصل كل الأديان والطوائف والثقافات عن الحكم، وبدلا لذلك تصوغ دستورا يحمي كل هذه الأديان في إطار اجتماعي وفردي تقف فيه حرية الفرد عند حرية نُظرائه في المجتمع، وكما تضمن به مشاركة كل ذي دين أو لا دين في شؤون المجتمع والسياسة.

العلمانية ليست دينا جديد، وإنما
العلمانية ليست دينا جديد، وإنما "قواعد سياسية" جديدة فقط، تضمن تحقيق العدل والمساواة وتكفل حقوق المواطنين كيفما كانت أديانهم وأعرافهم
 

أي ما يضمن للإنسان منتهى حقوقه في المشاركة السياسية بقطع النظر عن دينه وطائفته، بل ما يحدد ذلك هو "المواطنة"، أي ما يتبث انتماءك لوطن ويضمن مشاركتك في تدبير شؤونه السياسية ويقطع بنصيب حقوقك وحريتك في فضائه، ليس دينك أو مذهبك، بل فقط انتماؤك إلى سقع من أسقاع هذا الوطن، وهو ما لا تكفله السياسة الإسلامية التي تقوم على الإقصاء وعدم الاعتراف إلا بأتباع دين واحد، حيث يشكل فيها الانتماء لدين الإسلام حصرا شرط ممارسة السياسة واعتلاء مناصب الدولة وغيرها، عكس السياسة العلمانية التي تضمن هذا الحق البديهي وهو المتمثل في الإقرار "بحق الفرد أن يوجد كما يريد هو وليس كما تريد له الأعراف أو الدين"، أي أن العلمانية تكفل حرية الضمير والمعتقد والتدين والفكر والكلمة، وهو ما تصفو عبره المشارب للناس وتنقشع من خلاله غمة القمع الديني والتعسف السياسي.

يتجلى بهاء السياسة العلمانية ويكفهر وميض نظيرتها الإسلامية، إذا ما اطلعنا على مقتضيات كل منهما فيما يخص علاقة المحكومين بالحاكم، حيث تنص العلمانية على أن العلاقة بين هذين الأخيرين "تعاقدية"، أي أن الحاكم يرتبط بالشعب بموجب عقد يتضمن بنودا معينة، إذا استعاض الحاكم عن هذه البنود إنكارا أو نفيا للالتزام، حُق للشعب أن يفسخ هذا التعاقد فيبحث عن مترشح وَفِيٍّ زيادة عن سابقه، وهكذا يتم التداول السلمي عن السلطة بما يضمن للشعب حقوقه ويحصن منصب القيادة من التوتاليتارية.

التأخر في تبني مشروع مدني/علماني للخروج من حالة العطالة التاريخية لن يزيد المنطقة إلا تمزقا، وما موجة نزعة الانفصال في الوطن العربي إلا خير دليل عن فداحة السياسة الإسلامية

أما إسلاميا، فتنص سياسته عن كون العلاقة بين الحاكم والرعية تتحدد بـ"بيعة" على وجه التأبيد، وإذا حصلت البيعة مال الحاكم إلى الظلم والاستبداد بالشعب، تنص فقهيات السياسة على كون عدم أحقية هذا الأخير إلا الصبر والتضرع إلى السماء فقط، ذلك ما لم تطقه جماعات في الماضي والحاضر فاندفعت نحو الثورة ضد الطغاة، من ذلك اختضب التاريخ السياسي للإسلام والمسيحية بالدم، وبذلك فلا تضمن سياسة الدين تداولا سلميا عن السلطة ولا تُحَجِّم سلطات الحاكم كي لا يَطغى ويَستبد، وهو ما يقوض أسس السلم ويقضي على ضرورة الأمن والكرامة.

وبذلك يتضح أن العلمانية ليست دينا جديد، وإنما "قواعد سياسية" جديدة فقط، تضمن تحقيق العدل والمساواة وتكفل حقوق المواطنين كيفما كانت أديانهم وأعرافهم، كما تُجنب كرسي الحكم من أن يَقتَعد عليه طاغية، وبذلك يكون النظام العلماني هو الإطار الذي تتعايش فيه الأديان، وليس الإطار الذي تُقصى فيه الأديان كما يدعي الإسلاميون، العلمانية تخلق حيزا تَنصهر فيه الخصوصيات الثقافية وتمنع تكالبها عن بعضها حتى لا تؤدي إلى الخراب، أي أن الأمر يتعلق بسياسة دنيوية وليست دينية، فالعلمانية لن تزيد في عدد ركعات الصلاة، ولن تُغير شهر الصوم إلى شهر غير رمضان، ولن تبدل وجهة الحج أو اتجاه القبلة، ولن تزيد وتنقص في نصاب الزكاة، بل تتدخل فقط لتدبير ما هو مشترك بين المواطنين في حياتهم "الدنيانية" حصرا، ويبقى الجانب الديني متروك حرية ممارسته في الإطار الفردي والجماعاتي للأفراد كما يشاؤون، دون فرض أديانهم عن بعضهم البعض.

فواضح أن مبلغ حاجة أوطاننا لسياسات مدنية، بدل السياسات الدينية التي خربت مجتمعاتنا مساهمة في انهيارها، فجلي عن البيان أن واقع العنف في الوطن العربي يقوده التيار الإسلامي وليس العلماني، ما يجعل الانتقال إلى مجتمعات السلم والمشاركة ضرورة تقتضي "العلمنة"، أما الأسلمة فقد أبانت نتائجها الكارثية في سوريا والعراق ومصر وليبيا وأفغانستان والجزائر، فضلا عن التاريخ حيث مسرح مجازرها لمن أراد أن يتعض، وأخيرا نقول إن التأخر في تبني مشروع مدني/علماني للخروج من حالة العطالة التاريخية لن يزيد المنطقة إلا تمزقا، وما موجة نزعة الانفصال في الوطن العربي إلا خير دليل عن فداحة السياسة الإسلامية التي تمشي في ركابها هذه الدول التائهة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.