شعار قسم مدونات

جيل النسبية وجوهر الاختلاف

blogs - عجوز يمشي في الطريق أبيض وأسود
يوما بعد يوم أكتشف مدى اختلاف جيلنا عن كل الأجيال السابقة، وأزداد يقينا أن صراع الأجيال لم يكن يوما بهذه الحدة على مر العصور، فحجم التغيرات التي شهدها العالم في القرن الماضي عظيمة وخيالية حقا، أجد نفسي أحيانا بعيدا كل البعد في العديد من الأمور الجوهرية والأساسية عن جيل الألفية الجديدة أو جيل الثمانينيات، رغم أن الفاصل بيننا لم يتجاوز العقد من الزمن، وأرى بوضوح مدى التمزق الذي نعيشه بداخلنا أولا، ذلك التناقض الفظيع ومشكلة الهوية واليقين، وعقدة الانتماء، وحرب التحرر التي نخوضها بطريقة خاطئة جدا، ثم ثانيا ذلك التمزق الاجتماعي الذي يزداد من اتساع الفجوة بيننا وبين آبائنا وكل أولئك الذين سبقونا في الزمن فكان ذلك سببا في جعل معالمنا مختلفة عن معالمهم كليا، أكثر مما نتخيل. 

وإن من الأفكار الأساسية والجوهرية التي نختلف فيها مع الجيل الذي سبقنا هو مبدأ النسبية، نحن لا نختلف معهم في قواعد الفيزياء، ولا في المبادئ الدينية والأخلاقية كما يتخيل الجميع، نحن فقط نؤمن بالنسبية، وهم لا يفعلون. كيف أن نقنع جيلا كبر في فترة الحزب الواحد، والقائد الواحد والأوحد والأبدي، الجيل الذي كان التلفاز بالنسبة له هو القناة الوطنية فقط، الجيل الذي لم يعرف إلا ماركة واحدة للحليب والعصير والمربى والأحذية في حقبته، لم يعرف سوى تلك الأمور التي كانت تباع في سوق الفلاح إبان الفترة الاشتراكية الوطنية..

مهما بدت هذه الاختلافات بسيطة وسطحية وعابرة، ورغم ما يظهر لنا أحيانا من اندماج وتأقلم الجيل القديم مع التطور التكنولوجي والصناعي الكبير الحاصل، واستسلام معظمهم للنمط الاستهلاكي الذي فرضته الرأسمالية العالمية، إلا أن مبادئهم وأفكارهم الأكثر عمقا لم ولن تتغير. تلك الأفكار المرتبطة بالرقم واحد، بالحقيقة الواحدة المطلقة، والرأي الواحد الصحيح، والنظرة السوية الوحيدة، والحل الوحيد المتفرد للمشاكل، فمن الصعب إقناعهم اليوم بأننا يمكن أن نختلف كثيرا ونكون كلنا على حق، وأن نتفق كلنا ونكون كلنا على خطأ، أننا قد نكون محقين ومخطئين في نفس الوقت، محقين جزئيا ومخطئين في الجزء الآخر، وأن هذا الاختلاف ناتج عن تغير الزمان والمكان وتعدد وجهات النظر.

نستطيع أن نختلف دون أن نتخالف، وأن نتعايش ونتوسط في كل أمورنا لتبدأ عجلتنا بالدوران، عجلتنا التي أوقفها تعصبنا لمدة طويلة، تعصبنا الذي أوصلنا لما نحن عليه من ضعف
نستطيع أن نختلف دون أن نتخالف، وأن نتعايش ونتوسط في كل أمورنا لتبدأ عجلتنا بالدوران، عجلتنا التي أوقفها تعصبنا لمدة طويلة، تعصبنا الذي أوصلنا لما نحن عليه من ضعف
 

من الصعب أن تقنع آباك بوجود طريقة أخرى مناسبة لتحقيق شيء ما، غير الطريقة التي رسمها هو في عقله، من الصعب أن تقنعه أن بعض الأفكار لم تعد صالحة، وأن مقاومة التغيير والتطور الحاصل ستحكم علينا بالفناء، كيف أقنعه أن الكثير من الأشياء التي يراها هو من الكماليات، هي بالنسبة لي ولجيلنا عصب الحياة، وأكسجينها الذي لا يمكنني العيش من دونه، كيف؟ كيف أقنعه أن سبب الفجوة التي تكبر بين أفراد المجتمع الواحد والبيت الواحد ليس لها سبب غير اعتقاد الجميع بأنه هو وحده على حق، وأن كل فكرة غير ذلك هي فكرة باطلة فاسدة لا تصلح وأنها سبب للشر والفساد.

كيف لي أن أقنع كل من حولي أن الشيء الوحيد المطلق في العالم، في كل زمان ومكان، وكل حالة وظرف، هو الله سبحانه وتعالى، وقدرته ورحمته وكرمه وعدله سبحانه، وأنه علينا ألا ننافس الله في صفاته ولو سهوا، فهو وحده الأول والآخر والظاهر والباطن، و الحي القيوم الذي لا يموت. و كل ما دون ذلك آراء وأفكار بشرية نأخذ منها ونرد عدا كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأنه يمكننا -أقسم بالله يمكننا- أن نختلف دون أن نتخالف، وأن نتعايش ونتوسط في كل أمورنا لتبدأ عجلتنا بالدوران، عجلتنا التي أوقفها تعصبنا لمدة طويلة، تعصبنا الذي أوصلنا لما نحن عليه من ضعف ووهن وفرقة، تعصبنا الذي أعادنا لعصر ما قبل النسبية، بل إلى حقبة الأرض المربعة والمسطحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.