شعار قسم مدونات

زوال "إسرائيل" في بضع سنين.. أو في بضعة عقود!

U.S. President Donald Trump meets with Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu in New York, U.S., September 18, 2017. REUTERS/Kevin Lamarque
لم يكن بنيامين نتنياهو، واثقًا من أن عمر دولته، سيجتاز الثمانين عامًا بسهولة. هكذا بدا في ندوة "التناخ"1 التي عقدها في منزله هو وزوجته سارة بمناسبة عيد "العرش"؛ وهو يقارب مآلات وظروف "إسرائيل" الراهنة بمملكة "الحشمونائيم"2، التي شكّلت مثالاً مُلهمًا للصهيونية المعاصرة. يرغب نتنياهو بمصير آخر، غير مصير أواخر ملوك وكهنة مملكة "الحشمونائيم"، لذلك هو يسعى لضمان 20 عامًا أخرى لـ "إسرائيل" تجعلها مختلفة، قليلاً، عن مصير "الحشمونائيم".
 
هذه بعض من عبارات نتنياهو، الذي قال إنه يسعى لأن تصل "إسرائيل" إلى العام المئة من عمرها. "إنّ وجودنا ليس بديهيًّا"، " المملكة الحشمونية دامت 80 عامًا وإن علينا بدولة إسرائيل أن نتخطى ونمرّ هذه الفترة"، "عندما أعدنا بناء السيادة اليهودية هنا في أرض إسرائيل كان هناك من يرتبط بعبارات النبي آموس عن تأسيس وإقامة «عرش دافيد» الساقطة وما زالت هناك محاولات لإزالتها من وقت لآخر، لكنها حقيقة أكثر حزمًا من أي وقت مضى".

المفارقة، أن ملك الأمن الإسرائيلي، الذي طالما تحدث أخيرًا عن تحالفات غير مسبوقة مع بلاد وممالك عربية، يتفوق بقلقه هذه المرّة، على آمال المشتغلين في الشأن العام، من العرب والمسلمين، أو المعقّبين عليه من أصحاب الرأي، إذ يعيش الجميع الهزيمة المرّة، مع انكسار موجة الثورات العربية، وانتفاش الثورة المضادة، وترنّح الجماهير التي حملت السلاح في غير مكان من بلاد العرب، وما يبدو استقرارًا يصعب هزّه، في بلاد مركزية، هي في حالة تحالف معلن، أو شبه معلن، مع مملكة بنيامين نتنياهو!

ما الذي يجعل نتنياهو قلقًا، ويجعلنا في هذا الدرك من الإحساس العميق بالهزيمة، التي نتجرّع مرارها علقمًا كل ثانية من لحظاتنا؟
ما الذي يجعل نتنياهو قلقًا، ويجعلنا في هذا الدرك من الإحساس العميق بالهزيمة، التي نتجرّع مرارها علقمًا كل ثانية من لحظاتنا؟

يمكن القول، في حالة الهزيمة والإعجاب بالعدو، إنّ نتنياهو يتحدث بروح المسؤولية التي لا تركن إلى معطيات الأمان القائمة، وتفتش عن المخاطر لمواجهتها، لكن نتنياهو الذي قد يكون واحدًا من أسوأ حكام "إسرائيل" بالنسبة لدولته، رغم شحّ البدائل عنه، أقرب ما يكون إلى الحديث الواقعي، والشعور بالتحدّي الحقيقي الجاري. لم تكن المسألة محض استحضار معنويّ للعدو لازم في كل حين وآن، كما هو حال "إسرائيل" دائمًا، في تحفيز روحها المعنوية، ومجتمعها المُعسْكَر.
ما الذي يجعل نتنياهو قلقًا، ويجعلنا في هذا الدرك من الإحساس العميق بالهزيمة، التي نتجرّع مرارها علقمًا كل ثانية من لحظاتنا؟

لا شكّ أن إحساسنا بالهزيمة متمخض عن الجاري والراهن من أحداث تطحننا وتمزق أعصابنا وتهشّم إيماننا وتذرو شظاياه في فراغنا المرعب، بشكل أساسيّ نجم ذلك عن انكسار آمالنا العالية التي علّقناها على الثورات العربية، لحظة عاطفية، لم تكن تخلو من الكثير من الدهشة والجمال والهيبة، وكما استغرقتنا العاطفة في الغفلة، فإنّ الأحداث الجارية تستغرقنا عن رؤية الصورة من أعلى.

في اعتقادي أنه كان لا بدّ من تلك الهزيمة، ولم يكن بمقدور الجماهير والفاعلين في أوساطها، أن تدبّر أحسن مما فعلت، لا لانعدام الأفكار، ولكن لتعقيد الظروف التي دار في قلبها التدافع في بلادنا، بمعنى أن الفاعلين يستحقون الكثير من النقد الحادّ، ولكن مستويات التداخل والتعقيد، وموازين القوّة غير المواتية، والمشكلات العميقة المتراكمة منذ قرون، كانت فوق مستويات الوعي، والقدرة، وفوق أن يعالجها حلّ واحد، أو يحيط بها متصدّر من الفاعلين منفردًا.

الفكرة الأساسية هنا، أن منطقتنا، أو مشرقنا العربي بما يحفّه من محيط إسلامي غير عربي، ورغم كلّ تشابك المصالح والمتناقضات التي فيه، هو للمرّة الأولى، يقاوم بالشكل الجاري، عمقًا وجِدّة، وفي مستويات متعددة، من فعل الجماهير وحتّى من فعل الدول، الهيمنة الاستعمارية، منذ وراثة الإمبريالية الأمريكية للاستعمار القديم في بلادنا.

أحداث الثورات العربية، وسقوط حسني مبارك من أثقل ما مرّ على
أحداث الثورات العربية، وسقوط حسني مبارك من أثقل ما مرّ على "إسرائيل" في تاريخها، وبالرغم مما يبدو وكأنّها استعادت زمام المبادرة مع حلفاء لها في بلادنا العربية، وأمّنت رجلها الجديد في مصر

بل إن نمط هذه الحركة التاريخية، يختلف من جهة شموله المجال العربي كلّه بنسب متفاوتة وأشكال مختلفة، وتأثيره العميق على محيط العرب، وبصورة استدخلته في عمق مشكلاتنا، وفي لحظة تحولات عالمية، يفتقر فيها العالم، بقواه الكبرى إلى اليقين، ويستشعر فيها دبيب الفوضى في عروقه..
لقد مرّت، بمنطقتنا، أحداث هائلة، غير مسبوقة في حجمها، وشكلها، ونتائجها، وسرعة تحوّلاتها، وموقع الجماهير منها، خلال المئة عام الماضية، إن حركة تاريخية من هذا النوع، لا يمكن إلا أن تكون انتقالية، مفصلاً، يربط زمنين، يصل بوابتين، واحدة تغلق الزمن القديم، وأخرى تفتح الزمن الجديد.

في هذه الحركة التاريخية، نحن الكتلة المريضة التي تتململ من أجل التعافي، فكيف نتوقع مريضًا يكافح في قلب المطحنة؟ ونحن الطرف الضعيف الذي يناضل ميزان قوّة ساحق وفاحش الاختلال. إنّنا كثيرًا ما ننسى في غمرة المرارة، أن الضعيف لا يمكن أن يضمن مآل خياراته، لأن القوّة قد تسحق أحسن تدبير وأحكمه، بيد أن انفتاح الفرص في قلب الفوضى، واختلال تمام قدرة القوى المهيمنة على الإحكام، ومراكمة النضال، في زمن سريع التحولات وبالغ السيولة، هو الذي من شأنه أن يدخلنا في زمن جديد.

ومع ثقل الهزيمة الذي يسكر العقول، كما يسكرها الإحساس بالانتصار العابر، وغلبة الإحساس بجراحاتنا المفتوحة التي أثخنتنا بالوجع القاسي، تنظر "إسرائيل" للأمر من زاوية مختلفة، وعلى نحو يُعبّر بشكل واضح عن افتقارها للأمان الوجودي، ليس بكلمات نتنياهو التي قال فيها إن وجود "إسرائيل" ليس بديهيًّا، بل فعليًّا، وهي تحوّط نفسها بالجدران من جهاتها كلّها، لا مع الضفة الغربية وغزّة فحسب، ولا مع سوريا ولبنان فحسب، بل ومع ألصق حلفائها العرب بها، إنّ جدران "إسرائيل" تُبنى أيضًا مع مصر والأردن.

لقد كانت أحداث الثورات العربية، وسقوط حسني مبارك من أثقل ما مرّ على "إسرائيل" في تاريخها، وبالرغم مما يبدو وكأنّها استعادت زمام المبادرة مع حلفاء لها في بلادنا العربية، وأمّنت رجلها الجديد في مصر، فإنّها أكثر من غيرها، رصدًا لحدّة التحولات الجارية، إنّها تحولات لا تدع مجالاً للحظة من الاطمئنان الوجودي، أو الثقة بأي تقدير إستراتيجي.

الظروف لزوال
الظروف لزوال "إسرائيل" ما تزال بعيدة، لغياب الممهدات لذلك، مع أننا نعيش هذه الممهدات منذ سقوط بن علي، ودخلونا في مرحلة انتقالية
 

وإذا كانت التحولات قد انفتحت بهذا الدفق، وكانت مشكلات حلفاء "إسرائيل" في منطقتنا بهذا العمق، واحتمالات المواجهة المفتوحة على ممكنات التمدد قائمة في أكثر من مكان في منطقتنا والعالم، وكانت قدرة، أو إرادة، أميركا بالإحكام والسيطرة على منطقتنا قد تراجعت أو تغيّرت، وأخذت قوى إقليمية منافسة، أو معادية لـ "إسرائيل" بالتمدد، وكانت تحالفات هذه الأخيرة العربية، طارئة وتقوم على أساس هشّ وعلى معطى متغيّر هو مجيء ترمب، وتراجعت القيمة الإستراتيجية لـ "إسرائيل" لدى الغرب مؤسسها وحاميها، وقد دخلت السياسة في بلادنا في نمط جديد للجماهير دور فعل فيه، فإن على "إسرائيل" أن تخشى على مستقبلها في بضع سنين، أو في بضعة عقود.

سوف يقول قائل، إن الظروف لزوال "إسرائيل" ما تزال بعيدة، لغياب الممهدات لذلك، مع أننا نعيش هذه الممهدات منذ سقوط بن علي، ودخلونا في المرحلة الانتقالية التي سبق وصفها، إننا منذ سبع سنوات ونحن في هذه المحطة، التي سبقتها بالتأكيد حلقات أخرى أفضت إليها في سلسلة التاريخ.

المشكلة تكمن في تصوراتنا عن الظروف المطلوبة لزوالها، وغفلتنا عن سرعة التحولات الجارية. على أي حال ثمة مدخلان للنظر إلى موضوعة من هذا النوع؛ الأول التحليل السياسي والذي قد يحجبنا عن رؤية أوسع لتعلقه بالجاري، والتحليل التاريخي الذي يعطينا مجالاً للرؤية من فوق، أي كيف ننظر إلى كتلة الأحداث الجارية بالنسبة إلى موقعها في حركة التاريخ.

____________________________________
هوامش:
1 التناخ: الاسم العبري لكتاب اليهود المقدس، والذي هو اختصار لأوائل الحروف من: التوراة (أسفار موسى الخمسة)، ونفئيم (أسفار الأنبياء)، وكتفيم الذي يضم (المزامير، وسفر الأمثال، ونشيد الإنشاد.. وغيرها..).
2 مملكة الحشمونائيم: أو مملكة المكابيين، مملكة يهودية نشأت عن تمرد قام به فقراء اليهود ضد المملكة السلوقية، وضد حالة التأغرق التي أخذ يدخل فيها اليهود، مع أن النزعة الإغريقية قد طغت على هذه المملكة في وقت لاحق، وتُشكل هذه الدولة مُلهمًا تاريخيًّا للصهاينة الذين رأوا فيها تحول اليهود من شعب خانع إلى قوّة عسكريّة فتيّة غازية، وثمة متشابهات بين هذه المملكة ودولة "إسرائيل" القائمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.