شعار قسم مدونات

قلب عرف اللّه ثم زَلّ

blogs - رجل في قمة جبل
في حيّزٍ من دولابٍ قديم، كانَت مجموعةُ صورٍ في انتظاره، مَن قال إن الصور تحمِلُ انعكاسات أشكالنا فحسب، مَن قال إنّها لا تملِكُ أن تُسمِعنا صوتاً أو أن تُعيدَ إلينا رائحة عطرٍ أو غيره؟ كان يمسكُ الصورَ واحدةً تلو أخرى ويستذكر معها تفاصيل ما حدث قبل وبعدَ لحظة التقاطها؛ كان يستذكر أصوات الضحكات، وحدّة النقاش، وتفاصيل المكان. لم تكن الصور هي ما يُمرّرُ بينَ يديه، بل كان شريط عمرٍ بأكمله يمرُّ في ذهنه. كيف كنتُ؟ كيف صرتُ؟ أيّ المراحل تشبهني حقاً؟ أيّ اللحظاتِ أكثر صدقاً؟
يوماً، كان يبحث عن الله، يريدُ ألّا يمرّ عليه زمنٌ دون أن يزداد في معرفته. يوماً، كانَ أقربُ الأصدقاء إلى قلبه رفيقٌ يوقظه على صلاة الفجر ويذكّره بوردٍ قرآنيّ ويأخذه معه إلى عملٍ خيريّ. يوماً، كان يستشعرُ حبّ الله متمكّناً في قلبه يريدُ أن ينقله للناس أجمعهم. يوماً، كان يتعجّبُ من جرأة الناس على الذنب، يخاف عليهم من غضب الله. يوماً، كانت الحياةُ في ذهنه ورديةَ الدرب مع الله.

لقد عرفَ قلبه اللهَ يوماً، لكنّه زَلّ. انفتحت عليه الدنيا التي كان يظنّها أمراً فانياً ومتاعاً زائلاً؛ فوجدها متعةً وشهوةً وجمالاً. جلسَ في مجالسٍ قيلَ لهُ إنها كدرٌ وضيق، فوجدَ فيها من الضحكات ما وجد. في المرة الأولى التي أوقع فيها ذنباً كادَ يختنقُ استياءً، في المرةِ الأولى التي لم يستيقظ لصلاةِ الفجر فيها بقي طوال النهار مُكَدّراً، في المرة الأولى التي غيّر فيها أصدقاءه ورفقته قرر أن يُبقي لهُ خطاً أحمراً لا يتخطّاه كرمضان والصلاة مثلاً ثم وجدَ الأمر أسرعَ تفلُّتاً. في بدايةِ الأمرِ كانَ يشعرُ بخوفٍ من عقابٍ في كلِّ زلةٍ جديدة، كان يضيقُ من نفسه وفعله، ثمّ صار يضيقُ من كلام النّاس عن تغيره، ثم صار يضيق من كلّ ما يذكّره بالله.

لم يرد منكَ الله رهابنيةَ تبتدعها أو انعزالاً تتخذه في صومعةٍ من جبل، بل أراد منكَ أن تعيش الدنيا مُدركاً جمالها ومتعتها وشهوتها، قادراً على تطويعها والتغلب عليها
لم يرد منكَ الله رهابنيةَ تبتدعها أو انعزالاً تتخذه في صومعةٍ من جبل، بل أراد منكَ أن تعيش الدنيا مُدركاً جمالها ومتعتها وشهوتها، قادراً على تطويعها والتغلب عليها

ما الذي يحدث فينا عندما نذنب؟ كيف يصعبُ الأمر أولها ثم ندمنُ عليه ونستمتع؟ كيفَ ننكرُ على أنفسنا الذنب بدايتهُ ثمّ نستنكر على النّاس عدم فعله؟ كيف تتحوّل قلوبنا من نفورها مِن فِعل ثم إلى عشقٍ لهُ وإدمان؟ أهوَ استمراءُ الذنب الذي سمعنا عنه طويلاً؟ أم أنّه الطردُ من معية الله ومحبته؟ ألم يعد لهذا القلب قدر عند الله فلم يعد يدركُ أي خطرٍ يُحدثه؟ هل هو الاستدراج الذي ينالُ الغافلين؟ أيجبُ على المرء أن ينتظرعقوبةً من الله بعدَ كلِّ زلّة وذنب؟ بماذا سيعاقبه الله؟ هل سيبعث إليه مرضاً؟ أم سيفضح عنه عيباً؟ أم سيأخذ منه حبيباً؟ أم أن العقوبة ستكونُ مضاعفةً مؤجّلة؟ بين كلِّ فينة وأخرى كان شيئاً من هذه الأسئلة يعود إلى ذهنه، يتجاهلها في كلّ مرةٍ أو ينشغل عنها، أو يجيبُ نفسه بقوةٍ: أنا لستُ سيئاً لهذه الدرجة، كلنا يذنب، لا شيء يستحق كل هذه التعقيدات.

العبرةُ من الإيمان أن تقوى، أن تبقى على صلةٍ مع الله، أن تقوى تارةً وتضعفَ أخرى لكنّك في كل الأحيان لا تفقدُ شوقك للقربِ من الله. لا يخدعكَ وسواسٌ بأنّ الله لا يريدُك

لقد سمعتُ قصةً تُشبِهُ قصته مراتٍ وكرات، ومررتُ بمثلها أياماً وسنوات، وتساءلتُ في حيزٍ من العمر طويل: كيف لقلبٍ يعرفُ الله أن يزل؟ هل كانت معرفته لله سراباً؟ أم أنّه كان هشّاً للدرجة التي لم يتدارك فيها الزلل؟ ثم أدركتُ أننا لم نعرف اللهَ ولم نعي سُنُنَ الكون حقاً إن ظننا أنّنا لن نزل، أدركتُ أن خطاباً دينياً صور لنا – من حيث يقصدُ أو لا يقصد – أنّ حياةَ المؤمنين تصاعدية الروحانيات والإيمانيات والعبادات والإنجازات دوماً، وأنّ على من عرف الله أن يبقى نائياً عن كلّ فسادٍ وعبث، وأن قلوب أهلِ الله لا تمرّ عليها شهوةٌ ولا تعرفُ الخسارةَ في حربها مع الشيطان، ولوهلةٍ صُوِرَ لنا أنّ هذه القلوب عليها أن تتجاوزَ معركتها مع النفس والشيطان وأن تُصبحَ مطمئنةً لله ومع الله لا يراودها الذنب بل عليها أن تبذل العمر كلّه دعوةً وعبادةً.

لم يأتِ الإيمانُ يوماً ليخرجكَ عن إنسانيتك، ولو كان الهدفُ أن تتجاوز هذه الإنسانية لما جعلَ الله على الأرض من الإنسِ خلقاً وخليفة ولكانَ عباده ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم. لم يأتِ الإيمان ليُدخلكَ في عمليةِ بترٍ لكلّ صفات البشر وشهواتهم، لكنّه جاء ليهذِّبَ هذه النفس وليقويها. لم يرد منكَ الله رهابنيةَ تبتدعها أو انعزالاً تتخذه في صومعةٍ من جبل، بل أراد منكَ أن تعيش الدنيا مُدركاً جمالها ومتعتها وشهوتها، قادراً على تطويعها والتغلب عليها، وحتى تفعلَ ذلك فعليكَ أن تدرك جيداً منذ البداية أنّ القلب الذي يحبُّ الله ويعرفه قد يزل وقد يذنب وقد يُخطئ وقد يُحدثُ معصيةً وقد يفعلُ ما لا يُرضي الله، لأن لديه من الشهوةِ ما يجذبه للذنب، ولأن في العمر وسواسٌ وشيطانٌ يجمّل هذا الذنب ويقدّمه.

إنّكَ في كلِّ مرةٍ تُذنبُ ستجد أمامك بابين، بابٌ يُريكَ أن هذا الذنب مصيرك وأنَك قد سقطتَ سقطةً لا قيامَ بعدها ولا عودة، وأن الرجوع عن الخطأ أمرٌ صعبٌ وحياةٌ مضت، وأن العمرَ في تقدّم فلا تستنزف نفسك وأفكارك، وأن هذا هو واقعك وهذه هي حياته، وفي هذا الباب ستجدُ على كل ذلك أعوانا يؤكدون عليكَ أفكارك ويصعبون عليك أمر العودة، ويودون لكَ أن تبقى معهم في الذنب كما بقوا هم فيه، ليستأنسوا بأنّهم ليسوا على الخطأ وحدهم. وستجدُ إلى جانب ذلك بابٌ يريكَ أنّك أخطأت لكنّ الخطأ تجربة وأنتَ في الدرب إلى الله لا بدّ لكَ من التجاربُ والدروس، الذنب تجربةٌ أرتكَ نقاط ضعفك التي يتطلب منكَ الآن أن تستدركها فتقويها. في كلّ مرةٍ تذهب منكَ الصلاة فكّر، ما الذي جعلها تذهب؟ ما الذي أفقدني الرغبة إليها؟ في كلّ مرةٍ تنظر فيها لما لا يحلّ لكَ فكّر، ما الذي سهّل علي ذلك؟ أرأيتَ لو علمتَ أن اللغة عائقٌ دونَ توظيفك؟ أولستَ إن كنتَ جاداً ستعمل على تحسينها؟ كذلكَ كلّما أحصيت نقاط ضعفك في دربكَ مع الله ابحث واسأل واقرأ وتعلّم كيف تًصلحها؟

العبرةُ من الإيمان أن تقوى، أن تبقى على صلةٍ مع الله، أن تقوى تارةً وتضعفَ أخرى لكنّك في كل الأحيان لا تفقدُ شوقك للقربِ من الله. لا يخدعكَ وسواسٌ بأنّ الله لا يريدُك؛ فحاشا لمن سمّى نفسه "الواسع" أن تضيقَ سعةُ رحمته وعفوه ووده فلا تشمل قلبك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.