شعار قسم مدونات

هكذا علمتني قصيدة التأشيرة لهشام الجخ

مدونات - هشام الجخ

ليس الإسلام أسير الذكريات ولا هو محبوس في عرين الماضي بل إن له وحي شامل ووعي كامل حتى يفتح الدنيا بحذافيرها، وقد بدأ الإسلام غريبا، مواكبا مع الفقراء والأراذل ثم تحول إلى حضارة تضم جميع مقومات الحياة والثقافة، ولم يزل يتسع نطاقه إلى أن ملك ناصية الدنيا وقبض قبضة لا تنفلت، وأرسل لجامها طيل المدن والقارات، فذي أوربا تحت وطأته وحدة سيفه، فذي إفريقيا وصحراءها في مرمى نباله وآسيا ومعمورها، شرقيها وغربيها خضعت أمام فرسان الإسلام.

لماذا تحجبون الشمس بالأعلام؟
خلافات راشدة، أموية، عباسية، عثمانية، وأيوبية، وزنكية، أيام رفرفت رايات الإسلام على التلال خفاقة وأعلام طارت على الفضاء دفاقة، هكذا بنينا تاريخا وجيلا، وصنعنا عجبا ومستحيلا، كم من رادعات واجهنا خلالها، وكم من انكسارات تفجرت فينا، لكن العزم الصامد ظل يدافعها ويحاربها، فأصبحنا نسير من بعد كل الهزيمة إلى فتح جديد، ونبني صرحا مشيدا في كل الوادي والنوادي، لا الجبال منعتنا ولا البحار رجعتنا، بل خضنا موجاتها مع الصبر وحزام التقوى، وضربنا البحر بعصا الكليم وتوضأنا من ماء زمزم الخليل، لأن نفوسنا ربطت بتلك الشعارات الخالدة وانصهرت بتلك الروابط الدينية، وجاشت الأرواح عند الالتقاء واشتاقت وشمت الفردوس من دون أحد، وتعانقت الأشواق بكأس المنون وصفقت لنيلها وتناولها، فلا نفس تتخلف لدى المغريات ولا قلب يتوقف عند هواجس الشيطان وهمزاته، بل كانت الأنفس تتناوب الموت وترافقه.

العود محمي بحزمته ضعيف حين ينفرد
ثم تغير المجرى فتأسر المسرى، وضاعت الأندلس وفرت رجالها بنسائها، وبقيت العزة تساوم وتباع وتشترى، وجهل المسلمون مصيرهم، مشوا كما مشى من تراءى لهم، فقدوا بطاقة هويتهم ونسوا عنوانهم وأصالتهم، يهربون بدينهم ولكن لا كهف يسترهم ولا حراء يأتي بوحي ودين جديد، لأنهم أضاعوا جمال الدين ووقاره، وتلاعبوا بهيبته وجبروته، فغضب الرحمان وأرسل صواعق الحضارات والحركات فيهم، فتمايلت القلوب وهاجت بحارها، كأنهم وقعوا في تيه تلاقى أوله بآخره، هكذا مضت القرون تصطاد أمة وتقتنص منها عزة وجلالة، وسرقت منها روحها وآخر أنفاسها، فظلت خير الأمة تقرض المراثي وتنشدها وتركب ظهر الخيل مع أن الدبابات حلت مكانها والرشاشات ظلت تصرخ والرصاصات تنطلق، إلا أن خير الأمة اكتفت بالحجارة وأسرجة الخيل، أمة نسيت مجرى الدموع ومسرى الحبيب.

لماذا الفرقة الحمقاء تحكمنا؟
فلما انبثقت شمس القرن العشرين وذرت أشعتها على الأمة الإسلامية عمتهم وغمرتهم لفحة من النار، حروب تلو حروب، حروب تقضي على الحياة وعلى العالم، اكتوت في مرجلها ملايين البشر وانمحت من صفحات التاريخ آلاف العبر، لكن المسلمين تنحوا عن هذه اللعبة النارية وظنوا أنها لا تمسهم، إلا أن النار كانت بداية جذوة فيهم، الخلافة العثمانية تضعضعت والدولة الصهيونية ترعرعت، وطارت أحلام المسلمين مكسوة الأجنحة، ومنثورة الأسلحة، لأن نداء العربية أنشأ في الإسلام خرقا من جديد، ولم شعث العقال والجمال فعادت العروبة إلى التبرج بالجاهلية ونبشت الإسلام في حرمه وميزابه، وظل أمير الشعراء أحمد شوقي يبكي ويشتكي، وشاعر الإسلام محمد إقبال يحكي ويمضي في مسرحيات الإسلام وبطولاته.

 

 
وأما العثمانية التي قادت الإسلام ثلاثة قرون متوالية أصبحت بوق العلمانية وبندقية قتلة الإسلام، فلا محمد الفاتح يسري في شوارعها ولا سليمان القانوني يمشي في أزقتها، ولا الملك المعظم أرطغرل يبعث من أشلاءها، نكبة تلو نكبة. وأما العربية بل السعودية كانت في طليعة هذه الغارة الشعواء، وهي التي أثارت البغضاء والشحناء، وهي التي صافحت الأعداء وصفقت لهم، وهي التي مهدت التاريخ والطريق لهم، وهي التي دمرت مآثر الإسلام ودياره، وهي التي رممت ملكيتها وجاهليتها، فهذه الجراحات كانت لها طعنات عميقة ووقعات أبعد مدى، لأن الإسلام صار لعبة الأمراء وعلقة في لسانهم، وأصبحت قادته إمعة ودمية، لا التاريخ يستنهضهم ولا الماضي يستفخرهم، بل وضما على ورم، تولد الكيان الصهيوني بأم أعينهم، وتفقد المقدس ومنارته تحت سمعهم وأبصارهم، وسالت دماء المسلمين وجرت الدمعات تترى فتترى، لكن المخططات الصهيونية وسعت نطاقها وفتحت فاهها، ومدت إلى عروش العربية وإلى أرائك البلدان الإسلامية، وتطاولت على مترها وشبرها، كأنها تستدعي بوق القتال وتنظر فتقارن قوتها بين الدول العربية، نعم، تفجرت الحرب، ولكن ماذا حدث؟ هل عاد القدس وقبته؟ أم استقر جولان وعزته؟ بل إنما أنتجت جمود الإسلام وعقمه، وكشفت عن قناعنا المستورة، وقالت للعالم بأن العروبة أسطورة.

هجرنا ديننا عمدا فعدنا الأوس والخزرج

هل جنى الربيع ثماره أم أخلى الطغاة قصورا؟ بل ورث طاغية أكبر منه، مبارك بعده سيسي وصالح بعده حوثي، وبشار وداعش، هذه بقايا الربيع وأنقاضه

من خيبر ومن بابه بدأنا الحرب مع اليهود، ولأجله أخبر الرسول بقولته الاستراتيجية "من يأتيني بنبأ القوم فله الجنة"، ولكنا تناسينا وشغلنا عنه، فتوغل فينا المكرة وقاموا بتسريبات وتجسسات عنا وعن مقدار قوتنا في الحرب والسلم، هكذا فشلت محاولتنا في الحرب مع إسرائيل وعادت مبارزتنا معهم جوفاء، ولكن الزمان مضى في سيره، وتعاقب على أثره، مواكبا ومراقبا على تحركاتنا وتأهباتنا لمعركة الاستقبال، فطلعت في الشرق باكستان وطاقتها النووية، ولمعت في العراق صدام وقصفه تل أبيب، وانفجرت في الإسماعيلية حركة البنا وإخوانه، ولاحت في أنقاض فلسطين الجريحة حركة الفتح وعرفاتها، وفي غزة حماس ودفاعها، وفي خراسان خميني وشيعته، ولكن ماذا حدث؟ هل استثارت هذه الحركات كوامن الأمة الإسلامية وهل أعقبت عزة وفخارا؟ لكنها تحدثت عن أمة أبية لا تركع دون التحدي وظاهرات السلاح، بل شكلت في العداة موجة اليأس والفزع، واعترفوا بأن هذه العصابة وأن هذه الجماعة لن تمحو من التاريخ بشكل يسير، وأن محاولة إبادتها تحاكي كسر المستحيل وتحتاج إلى مشروع مصمم، فإن مطر القذائف لن يشتت شملها.

أتجمعنا يد الله وتبعدنا يد الفيفا؟
فلما طلع القرن الواحد والعشرون وانبثق معه جيل جديد، نشأت فيهم روح العودة والقيام، وأثارت فيهم أجدادهم غيرة وحماسة، وهيجوا أحفادهم نافخين كير الغضب والثأر، ولكنهم أخطأوا وأخروا في تدبير الأمور ومراقبة الحوادث، لأنهم أحيطوا من كل الجوانب وحوصروا في بيوتهم، سرائرهم مكشوفة في غرف الأعداء وكمائنهم معثورة عليها، فصدام ذهب إلى ربه وذهبت معه العروبة وعقالها، وأحمد ياسين لقى ربه وكان فارس الكرسي وأسد الميدان، وتلاه عبد العزيز الرنتيسي، وفضل الأباتشي ولم يتأخر، والعراق وما أدراك ما العراق، مدينة علمت الدنيا، وربتها، وإلى أين استقر فرارها؟

 

تم بيعها وشراءها على حين غفلة منا، وكنا مظاهرين على الأسواق رافعين أيادي اليأس والعجز، وأعدم صدام رافعا في يديه كلام الله، ثم أتانا نبأ من وادي الربيع العربي، فصرنا بين الريح والإعصار، مصر في مهبه وتونس في ضربته ويمن في مقدمته وسوريا على وشكه، ولكن ماذا حدث؟ وهل اجتنى الربيع ثماره أم خلى الطغاة قصورا، بل ورث طاغية أكبر منه، مبارك بعده سيسي وصالح بعده حوثي وبشار وداعش، هذا بقايا الربيع وأنقاضه، إلا أن تركيا وأردوغانها عاشت الأوضاع بحكمة ومد بصيرة، وخفنا عليها ليلة الانقلاب العسكري، ولكن الشعب المفكر أدرك خطورة الأمر ورد الكيد إلى نحره، كذبوا وخدعوا معك، وقالوك بأن الربيع إرهاصة الجيل الجديد والحياة والعام السعيد، كلها كذب في كذب، لا ربيع ينضج ثمرك ولا دستور يحيي أملك، عش أنت وكن أنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.