إن -أعظم الشخصيات البشرية بلا منازع- النبي محمد عليه الصلاة والسلام كان وسيظل أهم مثال على العزلة ودورها في صناعة الوعي وتهيئة السلام الداخلي الذي بدوره يقود يغري الوحي بالنزول، بالتأكيد لن يكون وحيًا إلهيًا في كل مرة -كما يحدث مع الرسل والأنبياء- بل قد يكون وحيا فنيا أو فكريا أو علميا.. لقد كان نبينا الكريم يفضل عزلته في غار حراء على مظاهر الحياة الصارخة في أهم وأنشط مدينة عربية. كان يفضل تأمل السماء على مجالسة فتية قريش والاستماع إلى ما يخوضون فيه مما لا يسمن ولا يغني من فكر، وكان يألف مطالعة وجه الصحراء أكثر مما يألف التجول في أسواق مكة والانشغال بتفاصيلها اليومية، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقضي معظم وقته في الغار متأملًا من الأعلى في خلق الله من صحراء وسماء وبشر، وظل على ذلك إلى أن اصطفاه الله ليكون خاتم رسله وهادي البشرية كلها وأرسل إليه جبريل عليه السلام بعد أن تهيأ قلبه ليبلغه بالرسالة.
هناك أمثلة عديدة من الشخصيات التي غيرت وجه البشرية من مفكرين وشعراء وعلماء كانوا يعشقون العزلة وبالتأكيد كانت بدورها من أهم عوامل نجاحهم وصفاء رسالتهم، الإمام المتصوف العارف أبو حامد الغزالي الذي أمضى حياته في العزلة أينما حل وترحل حتى سطعت أنوار عبقريته الخالدة "إحياء علوم الدين" على جهات الدنيا الأربع، أبو فراس الحمداني الأمير الشاعر الذي أتحف الروح البشرية بعدة قصائد خالدة أعظمها الذي يقول فيها "أراك عصي الدمع شيمتك الصبر" والتي كتبها خلال فترة أسره في سجون الروم، هتلر القائد النازي الذي استغل فترة إقامته في سجن لاندسبرج بتأليف كتابه "كفاحي" الذي أسس فيه نظرياته في الحكم وآراءه التي صارت بعد ذلك سياساته التي غيرت ملامح النظام الدولي في وقت من الأوقات. الأمثلة كثيرة وأنا على يقين بأن العزلة كانت فطرة ضرورية لازمت الشخصيات التي صنعت التاريخ الإنساني.
قبل أن يساء فهم ما أدعو إليه يجب أن أوضح عدة فروقات.. أولًا الفرق بين الوحدة والعزلة، الوحدة هي شعور المنبوذين الذين يضطرون إلى الابتعاد عن التجمعات والناس، الوحدة حين تشعر بالخذلان والعجز والعدمية حين لا يكون لك وزن في ميزان العلاقات الاجتماعية بمن حولك.. لكن العزلة هي شعور الأقوياء الذين يرون أن الوقت الذي يقضونه بمفردهم أكثر فائدة من الذي يقضونه في المجالس للاستماع إلى النكات الطازجة وممارسة الغيبة والنميمة.
لذلك فلا تعارض بين العزلة والصداقة أو الزواج، ولو كان كذلك فسوف يكون هناك نوع من التجني الزائد على النفس والزهد الصوفي الذي يقترفه العارفون الذي يعدون على الأصابع خلال مسيرة الإنسان من يوم خلق آدم عليه السلام وهذا ما لا يطيقه العاديون، الفرق الثاني هو الفرق بين العزلة والانعزال، الانعزال هو الذهاب إلى الوحدة محملًا بأفكار سلبية عن كل ما حولك إما بنبذهم لك أو باستخفافك بهم أو بالاثنين معًا، لكن العزلة شعور محايد يركز فقط عما يدور داخلك بغض النظر عن مواقفك من الجو المحيط بك بل قد يكون سبب العزلة هو حب المحيطين بك ومحاولة استحضار القدرة للحصول على شيء يفيدهم لاحقًا.
يقول جانيت فيتش "العزلة شيء موجود بالطبيعة البشرية، هي طريقة للوصول إلى الروح، لا تتوقع أبداً أن تتغلب على الشعور بالعزلة. لا تأمل أن تجد أشخاصا بإمكانهم استيعابك، شخص يمكنه ملء الفراغ في حياتك، هذا الأمر يستثني الشخص الحساس، إذا توقعت أن هنالك أشخاصا يفهمون ما بداخلك قد يتولد لديك شعور بخيبة الأمل، الشيء الوحيد الذي بإمكانك أن تفعله هو أن تستوعب نفسك وما يدور بداخلك ولا تجعل أي شيء يقف في طريقك"، ومن هنا يجب علي أن أقول لكم إن العزلة إن لم يكن قرارها نابعا من الداخل فلا يجب أن نرغم أنفسنا عليها لأن لذلك تبعات غير حسنة، لأنها سلاح ذو حدين فإما أن يخرج منها الإنسان الذي اختارته هي عبقريًا بأعمال خالدة وإما أن يخرج منها الإنسان الذي فرض نفسه عليها مريضًا نفسيًا ومصابا بداء العجز عن التواصل مع محيطه.
إن للعزلة نشوة تهتز لها خلايا الروح والجسد وإنها بلا شك وكما قلت سابقًا من أهم عوامل التركيز في الرسائل التي تحمل الخير والجمال للبشرية، وفيها أيضًا فوائد ذات بعد مرحلي كالابتعاد عن الفتن والاصطفافات وسفاسف الأمور وتوافه الكلام. وفيها أيضًا وقاية من التلون والعشوائية والصداع الذي ينخر في رأس البشرية والذي لا يمكن لنا أن نقي أنفسنا من وعثائه إلا بالعزلة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.