شعار قسم مدونات

الماسة السوداء.. من التنمية العمرانية إلى الاستباحة العمرانية

blogs الماسة

يجب على المتأمل للماسة السوداء البازغة مؤخرا في قلب صحراء مصر أن يتجاوز بسرعة الاحتفالية المهيبة التي صاحبت افتتاحها وملحقاتها المعمارية والعمرانية من فندق ومحلات تجارية ومطاعم ومقاهي ونافورات راقصة. وبالحديث عن الرقص، فهو مطالب أيضاً بأن يتجاوز وجود نخبة فنية من راقصات سابقات يرسلن قبلات هوائية متتالية، وهن يمثلن جانب من الحضور المبتهج والمُنتقى بعناية ليحتفل بباكورة مشروعات العاصمة الجديدة.

 

هذه العاصمة التي قيل لنا أننا نحتاجها بشدة وأنها بوابة لدخول مستقبل وافر الرخاء. كما قيل لنا أنها عاصمة أكبر من سنغافورة وحدائقها مرتين أكبر من سنترال بارك في نيويورك وستة أضعاف هايد بارك في لندن، ومدينة ملاهيها أربعة أضعاف يونيفرسال ستوديوز الأمريكية، وبها عشرات الأبراج منها أعلى برج في إفريقيا، وبها نهر أخضر. لماذا هذه العملقة والضخامة والارتفاعات والملاهي الأسطورية؟ هنا تبدأ السردية الحزينة لأنك تتساءل وتعتقد أن هذا حق لك.

يجب أن يتجاوز المتأمل للماسة السوداء أيضا فخ التساؤلات من نوعية هل يعقل أن تكون هذه هي أولويات حكومة تتسول وتقترض وتنحني أمام صندوق النقد الدولي من أجل مليار دولار كل ستة أشهر. أو هل يعقل أن هذه أولويات حكومة شعبها هو الضحية الأولى لإفلاسها وعجزها المالي والإداري، وهو يسحق يومياً تحت وطأة أسعار ملتهبة وتضخم غير مسبوق وضرائب أجهضت البقية الباقية من الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري. من المهم أيضا ألا ينحرف بك تفكيرك وتندفع إلى سؤال مثل وهل يعقل أن بناء الماسة السوداء هو مفهوم التنمية في بلد يبلغ عدد التلاميذ المعبأين في حجرة تسمى مجازا فصلاً دراسياً، يتجاوز المائة وعشرين طفلاً تبعاً لتصريحات وزير التعليم.

إن كل ما نسمعه حتى الآن عن العاصمة الإدارية الجديدة يركز على النهر الأخضر الذي تتوسطه مدينة الملاهي العملاقة وتتهادي حوله السيدات الرشيقات أصحاب الشعر الذهبي ومجموعة من راكبي الدراجات الملونة
إن كل ما نسمعه حتى الآن عن العاصمة الإدارية الجديدة يركز على النهر الأخضر الذي تتوسطه مدينة الملاهي العملاقة وتتهادي حوله السيدات الرشيقات أصحاب الشعر الذهبي ومجموعة من راكبي الدراجات الملونة

وأُحذر أيضا من الاستسلام لسيل من علامات الاستفهام تتراءى أمامك من نوعية ومن هو المالك أو المستثمر وكيف ستنفق الأموال بهذه الكيفية وأين دراسات الجدوى الجادة، وما هي العوائد الحقيقية على التنمية ومن سمح بالمشروع ووافق عليه وناقشه ومن ومن ومن؟ ولماذا تم الاختيار للماسة السوداء وملحقاتها لتكون باكورة مشروعات العاصمة الجديدة ولم يقع الاختيار على جامعة حقيقية أو مركز بحثي فاعل أو قاعدة تكنولوجية تربطنا باقتصاد المعرفة والعلم والإبداع؟

 

إن كل ما نسمعه حتى الآن يركز على النهر الأخضر الذي تتوسطه مدينة الملاهي العملاقة وتتهادي حوله السيدات الرشيقات أصحاب الشعر الذهبي ومجموعة من راكبي الدراجات الملونة. ثم مجموعات من الأبراج الزجاجية الفجة التي لم تصمم ولكنها استدعيت من ملفات الرسومات الرقمية المتاحة على شبكة الإنترنت ومواقع البناء الافتراضي التخيلي. ثم مئات الألوف من الوحدات السكنية الفاخرة والفيلات التي تبنى في عاصمة بها الملايين من الوحدات الشاغرة غير محددة الملامح والاستعمال نتيجة سياسة إسكان شديدة الفشل.

 

المذهل أن ما تم البدء في بنائه من مساكن في العاصمة الجديدة هو إعادة اجترار لإفلاس معماري وعمراني عانت منه القاهرة في الأربع عقود الماضية واستهجن الجميع فكرة تلك التكتلات الخرسانية القبيحة ولكن العاصمة الجديدة تحتضنها مرة أخرى وتكرر كل أخطاء الماضي.

نحن في عصر تم فيه استباحة العقول المصرية، وكانت البداية مع معاقبة كل من يرفض أو أن يعترض على أن مشعوذ مصري سيقدم حلا كبابجياً لداء الإيدز وفيروس سي

الواقع أن ما أريد أن أؤكد عليه في هذا المقال، وخلافاً للفهم المتداول، أن الماسة السوداء وملحقاتها هي فعل مقصود يهدف ومع سبق الإصرار والترصد إلى تكثيف فكرة "الاستباحة" التي أصبحت المظلة الكبرى التي تحتوي تحت محيطها كل ما حدث ويحدث في مصر في الخمس سنوات الأخيرة. لذلك فالخطأ الأكبر أن نعتقد أن الماسة السوداء خطأ أولويات أو تسرع حكومي أو فشل استراتيجي أو مجد للزعيم، فالواقع أنها فعل مدروس ومتعمد في توقيته ومكانه وحتى تصميمه وشكله ومواده وألوانه.

نحن في عصر تم فيه أولا وبسرعة متناهية استباحة العقول المصرية، وكانت البداية مع معاقبة كل من يرفض أو أن يعترض على أن مشعوذ مصري سيقدم حلا كبابجياً لداء الإيدز وفيروس سي. كما أننا في عصر سيهان فيه أعظم الإهانة، كل من تسول له نفسه أن يعترض على سحق السيولة المصرية النقدية في تفريعة جديدة لقناة السويس لم يكن العالم يحتاجها، وهو يمر بأزمة مالية كما أن الطلب على النفط وأسعاره ومعدلات انتقاله تمر بأسوأ فتراتها منذ اكتشاف النفط.

عندما تم التيقن من استكمال الاستباحة العقلية بالكامل ومعاقبة العقول الناقدة بكل العنف، انتقلنا إلى المرحلة التالية وهي انتقاله منطقية وأسميها في سياق هذا المقال الاستباحة العمرانية أو بالأحرى استباحة الأرض. حقا فالماسة السوداء وملحقاتها شديدة الارتباط بدراما التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. في سردية الجزيرتين تم استباحة العقول والأرض معا في ضربة ثنائية عبقرية عندما استيقظ المصريون على عناوين جرائدهم الصباحية مكتوبة باللون الأحمر تعلن لهم أن الجزر ليست مصرية وأنه أوان إعادتها لأصحابها! من لم يدرك أنه مستباح عقليا وعمرانيا وطرح سؤال كيف وهي أرضنا التي ناضلنا من أجلها، انتهى إلى أرضية زنزانة خرسانية مغلقة في سجن من سجون مصر الخبيثة.

 

وعندما وصلت الرسالة وترسخت ثقافة الخوف، رأينا المشهد الغير مسبوق. لأول مرة في تاريخ البشرية يقوم أصحاب الأرض والوطن بالتظاهر صارخين: هذه ليست أرضنا وليست جزء من وطننا. أرجوكم خذوها وخلصونا من هذا العبء الأخلاقي ولنا في رسول الله أسوة حسنة عندما نادى برد الأمانة! حتى رسول الله استخدموه لاستباحة العقل المصري المعاصر بكل العمق.

لن يساهم المشروع في أي تنمية سياحية أو عمرانية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكن هل هذا السؤال أصلا له قيمة في زمن الاستباحة العقلية والعمرانية؟
لن يساهم المشروع في أي تنمية سياحية أو عمرانية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكن هل هذا السؤال أصلا له قيمة في زمن الاستباحة العقلية والعمرانية؟
 

في سردية الماسة السوداء وملحقاتها، وبصرف النظر عن الأطروحات التلفزيونية الفضائية والخبراء المتحدثين عن المعجزة العمرانية التي تتحدى مشروع قاهرة الخديوي إسماعيل وعلي مبارك، فإن النظام يعلم تماما أنها ليست أولوية، كما يعلم أنها مشروع عديم القيمة. ويدرك أن هذا الفندق لن يدخله سائح أجنبي عاقل واحد يمكن أن يترك كل فنادق مصر ذات المواقع الخلابة شبه الخالية ويختار أن يقضي عطلته في فندق قبيح في قلب الصحراء تحيطه أسواراً عملاقة وتشكيلات من الدبابات.

 

إذن النظام يقدم لنا دليلاً دامغاً على أن العقول تم استباحتها والعمران أيضاً. تعني الاستباحة العمرانية في هذا السياق أن علاقة الإنسان بالمكان والأرض والوطن قد أجهضت تماما. ستتراقص النافورات ثم تتعطل وتتوقف وستتحول الماسة السوداء إلى جبل ترابي مُهمل لن تنفع معه خراطيم المياه لإعادة الرونق لزجاجه الأسود كما فعلت يوم الافتتاح. وسيتحول المشروع إلى امتداد لأي من أندية الضباط وعائلاتهم ويسمى الماسة واحد أو اثنين أو ثلاثة.

 

لن يساهم المشروع في أي تنمية سياحية أو عمرانية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكن هل هذا السؤال أصلا له قيمة في زمن الاستباحة العقلية والعمرانية؟ أبدا لا توجد له أي قيمة ولا تتسأل ولا تنقد ولا تحلل، فننزع وطنيتك من قلبك بالإكراه، ونحولك إلى خائن مغرض كاره للفرح. لقد قرر النظام أنك مستباح عقلياً وعمرانياً، فارضخ واستسلم وتأمل حفل افتتاح الماسة السوداء وملحقاتها وصفق بكل حرارة فنحن مازلنا أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى النهر الأخضر والماسة السوداء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.