يقول خالد الحسيني: "كلّ قصّة أفغانية مرسومة بالموت والخسائر والحزن الّذي لا يُتصور، وبالرّغم من ذلك، ترى النّاس يجدون طريقةً للبقاء، والاستمرار". هذه الفطرة الّتي جُبل على حملها الإنسان، تلفظ الحروب، وتنزعُ من صلبِ الموت الجدوى والحيلة للحياة، والاستمرار دائمًا. من طرابلس هنا بنغازي؛ حيث يمارس البنغازيّون محاولة جديّة للعيش من جديد، ورسم طرقٍ أخرى كثيرة التّعرّجات، وأشدّ ازدحامًا من الأولى.
لم يكن أمرًا ذا بال أن الحربَ ستمتدّ عامًا تلوَ الآخر، أنَّ طرق العودة ستضمحلّ وتستحيل إلى أمانٍ يسلِّي بها المرءُ نفسَه. ولكن كأيٍ امرئٍ كان يحاول الفرارَ من الموت، بدأ النّاس بحملِ حقائبهم الّتي ما كانت تحمل سوى أغراضٍ قليلة على أمل العودة القريبة، أو على أنَّ الأمر ما هو إلّا مجرَّد نزهة. هكذا كان كل شيء ببادئة الأمر، وهذه الرؤية المأمَّلة بالعودة كانت هي القشّة الّتي يتشبّث بها كلّ لاجئٍ يعلِّل النفسَ بالأوبة لبنغازي، ويصفُ حجي جابر ذلك بقوله في روايته سمراويت: "وحدها العودة تلتصق بالوطن، تتماهى معه، تدلّ عليه".
كانَ أملُ العودة يلتصق بهم، ولا يزال حتى بعد مرور هذا الوقت ينزلق إليهم عبرَ فجوات التفكير والمُنى. أمَّا الواقع فقد كان له مشهدٌ آخر أكثر مأساوية، حيث اضطرُّوا إلى حملِ الإسمنت ومواد البناء، وبيع الخضار في الطّراقات، إلى خوضِ كثير من الأعمال الشّاقة، والبدء من مرحلة الصّفر، وهنالك من مدَّ يده يتسوّل "لقيمة" تعيّشه وأطفاله عند بعضِ المفترقات، كل ذلك لأجل جمعِ قوت يومهم، لسدِّ رمق الجوع وستر عورة الفاقة الّتي ما تلبث أن تزدادَ ثقوبها اتِّساعًا مع صعوبة العيش، وكثرة متطلّبات الحياة اليومية.
ألتقي اليوم بشخوصٍ كثيرة ترقبُ موعدَ العودة بلهفة الظّمآن إلى الماء، شخوصٍ لم تستسغْ بعدُ فكرة العيش في غير بنغازي! هؤلاء تستطيع أن تعرِفهم جيِّدًا من لهجتهم الّتي تتميّز بصوْتٍ جهوريّ غليظ يتقلَّب ما بين التفخيم والرّقة، بملامح تحمل سمات سكّان الشّرق اللّيبي، تستطيع أن تقابلهم في المرافق العامة، بالمستشفيات والجامعات، هنا حيث يتعارفون، ويقدِّمون الخدمات لبعضهم، وتتسلّل حميمية بنغازي إليهم، وكأنّ كل شخصٍ يرى في تقاسيم وجه الآخر أزقة بنغازي وتفاصيلها؛ هذه اللّقاءات العابرة تعرّضهم للفحاتٍ من ريح بنغازي. هكذا يصف حجي المشهد، بشفافية من يتوغل في أزقة الجرح ويروي حسرة هذا الفقد الجسيم، يقول حجي جابر: "غريبٌ أن يكون الوطن قريبًا إلى هذا الحدّ، أن يكون في الجوار، أو في الشّارع المقابل وتفصله كلّ هذه السّنوات". لقد فصلتنا عن أوطانِنا الخيبات، والآلاف من الأحلام المؤجّلة يا حجي، يفصلنا عنها الخوف، وشعور سحيق بالاغتراب الرّوحي.
لقد غادرتُ بنغازي هربًا منَ الموت، ولكنّه غفى في بؤرة عميقة من ذاكرتي، في بؤبؤِ عيني، وفي أنّات ثقوبِ روحي الكثيرة. وعندما عدت إليها شعرتُ أنّ داخلي انتُهكَ مرّةً ثانية، وعندما غادرتها مجددًا سقطَتْ كلّ سدودي المنيعة أمام حزني. اليوم لا أستطيع الإجابة عن سؤال: هل كانت الحياة فيها أو خارجها تلائِمُني أكثر؟، ما عادَ الأمر يهمّني كثيرًا رغم أكوام الحيرة الّتي تملؤني، ولكنّي لفرطِ هذا الاغتراب الرّوحي كفرتُ بالأوطان وكفرتُ بالعودة.
إنّني أقف الآن في منطقة سحيقة بين زمنين، يسحبني الأول إلى وقتِ ما قبل الحرب، حيث تبدو الذّاكرة مصابة بالغبش، يتسلّل إليها ضبابُ النّسيان، والثّاني زاخرٌ بأوجاع لها أوّل ولم يكن لها آخر، حيث تمارس الذّاكرة اجترار التّفاصيل، تفتّش دائمًا عن الرّصاصة الأولى، مشاهد الموت الّذي لا يملّ من التحليق فوقنا، عن الأسفار الطّويلة والهجرات الّتي لا تنتهي.
وختامًا، أنا هنا أكتب عن تجاربَ آخرين لم أعشها، عن كدحٍ لم تجرّعني الأيّامُ مرارَتَه، لكنّي أقفُ إجلالًا لكلِّ الكادحين الّذين يقفون كصخرةٍ صامدة، لكلِّ الّذين يرفضون وحشية القتل، ويتمسّكون بإنسانيتِهم الّتي تحاول الحرب ببطشها أن تدهسها، للسّاعين دائما والمتمسكين بجانب قلبهم المطمئن، سلامٌ على الإنسان النّقي فيهم، والّذي لم تخرِّبهٌ الحرب.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.