شعار قسم مدونات

مقدمات في ألحية إنضاج الفكر التغييري

مدونات - القرآن
لاعتبارات ذاتية متعلقة بالخيارات الفكرية المتواءمة مع الخصوصية الحضارية لمجتمعاتها، ولاعتبارات موضوعية متعلقة بميزان القوة في مضمار المصارعة مع أنظمة الفساد والاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي، فإن الحركات الإسلامية هي الأكثر تأهيلا ـ رغم أدخنة التضييق ومحاولات الإقصاء وحتى الإفناء في بعض البلدان ـ لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي، وبسبب من هذا الموقع في الصراع وتلك الخصوصية الذاتية، يصبح وضع الأمل في قدرة الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية على إنجاز ذلك التغيير مفهوما ومبررا.
بيد أن الوعي الكامل باللحظة التاريخية وتحدياتها المخصوصة ومتطلبات ذلك على المستوى الفكري والمنهجي، بات أمرا ملحا على القوى التغييرية الإسلامية تحصيله، فِي ظل الانتكاسات السياسية التي تمت، وهي تحديات من صنف الاحتلال المباشر من طرف قوى دولية وإقليمية، والعبث الداخلي الذي يتجلى في توظيف الاستبداد والفساد للفوضى – التي أنتجها التخلف والظلم والجهل- لإدخال الأمة في نفق العنف الأعمى المدمر.

كثيرا ما تأثر الخطاب الإسلامي الوسطي بالخطابات التجزيئية والمستعجلة في تعامله مع الإشكالات
كثيرا ما تأثر الخطاب الإسلامي الوسطي بالخطابات التجزيئية والمستعجلة في تعامله مع الإشكالات "اليومية" لعملية التدافع

إن المقولة التأسيسية لهذا الأمر تستمد صدقيتها من مآلات المواجهة السياسية مع تغيير أوضاع العالم الإسلامي، ومن الأوضاع الدولتية "الفوقية" التي لم تزدها الجهود الإصلاحية إلا نفورا من الإصلاح وتأبيا عليه، وانخراطا من طرف الأطراف المعيقة للإصلاح في لعبة سِنادها خارجي يريد إبقاء هذه الأمة بشكل مكشوف في خانة التخلف السياسي والتبعية الحضارية. وزادُ هذه الإفاقة النظرية/المنهجية المطلوبة يجب أن يُستمد من مصادر معرفية وممارسات منهجية سنشير لبعضها في هذه التدوينة:

1ـ دراسة واعية وعميقة للسيرة النبوية، باعتبارها المنهج النبوي للإصلاح والمبينة للمنهج القرآني التغييري، دراسة تقطع مع القراءة الاختزالية التي تستخلص الدروس والعبر على المستوى الجزئي إلى دراسة تستخلص الكليات المنهجية المتعلقة بأساليب إدارة المعركة مع الْعَدُو والخصم، وطبيعة الممارسة التغييرية وخصائصها، وكيف تم زرع شجرة الإسلام، إن استخلاص درس ضرورة الاستعانة بالخبير مثلا من خلال قصة عبد الله بن أريقط في حادثة الهجرة ومن قصة سلمان عند الإشارة بحفر الخندق، يجب أن تتجاوز الاستخلاص الجزئي في الموضوع إسقاطا على التدبير الحركي الداخلي للأحزاب والحركات الإسلامية إلى العبرة الأشمل في ضرورة توافر الأبعاد الفنية والعلمية، وضرورة اعتماد المنهج التغييري ـ في صياغة نفسه واستراتيجياته ـ على أهل العلم والاحتفاء بمفاد العقل البشري من المعارف والعلوم.

إن كثيرا من الموازين الدعوية العظيمة مبثوثة في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يعالج الجاهلية ويؤسس المجتمع والدولة الإسلامية، من تدرج ووسطية وتفويت للمفاسد العظيمة باحتمال جزئياتها، ولئن كانت المدرسة الوسطية قد عمقت فهم المسلمين والصحوة لكثير من هذه المفاهيم فإنها لم تستطع بعد أن تسقطها إسقاطا حيّا على التحديات التي تعيشها، وكثيرا ما تأثر الخطاب الإسلامي الوسطي بالخطابات التجزيئية والمستعجلة في تعامله مع الإشكالات "اليومية" لعملية التدافع التي تأتي بجديد ليس بالضرورة أن يجد فتواه التفصيلية منطوقة ممهورة بتوقيع الوحي القطعي الدلالة، وهو أمر لا يمكن أن يواجه إلا بعقل تحليلي وتركيبي ذَي قدرة على الإسقاط الحي والانتقال بالموازين من رفّها النظري إلى تكييفاتها الواقعية لزماننا ومكاننا.

موضوعات الفكر التغييري المقترح يجب أن تطال وسائل التغيير من كافة جوانبها، تربوية وإصلاحية، سياسية واجتماعية
موضوعات الفكر التغييري المقترح يجب أن تطال وسائل التغيير من كافة جوانبها، تربوية وإصلاحية، سياسية واجتماعية
 

2ـ دراسة التجارب التغييرية للقوى الإصلاحية في المجتمعات الحديثة، وكيف واجهت بُنيات الفساد والاستبداد، سواء كانت هذه التجارب إسلامية، تفاعلت مع تحديات زماننا، وأمكنها أن تحقق الشهادة على عصرها من خلال خلق قوة اجتماعية تحركت بقيم الدين فحققت التمكين الحضاري والسياسي، أو كانت تجارب إصلاحية لدعوات وحركات إصلاحية غير إسلامية استطاعت كسر مشكل التخلف الحضاري لمجتمعاتها وواجهت العدو الخارجي، حيث تتقاطع كثير من جوانب هذه التجارب مع ذات التحديات التي تواجه مجتمعاتنا.

3ـ إعادة فحص دقيقة لمفردات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه الأمة، من أجل إعادة تشخيصٍ يُفرز خرائط التحدي ومراكز المنخرطين في برامج التعويق والإفساد في مجتمعاتنا، وهو تشخيص أبانت التجربة عن أهميته بسبب حجم المعارك الجانبية التي تورطت فيها الحركات الإسلامية، وكانت مفضولة في أحسن حالاتها، وفِي هذا الإطار تأتي أهمية فرز المكونات الغالبة على نسيج المجتمعات الإسلامية، وتقييم هذه المكونات تقييمًا شاملا وغير منحاز، لا يبتغي التقريب والإبعاد كهدف عاطفي، وإنما يسعى لتحديد الموقف الصحيح من هذه الفعاليات الاجتماعية والسياسية انطلاقا من علاقتها بعملية التغيير والإصلاح الحضارية، وهي عملية ينبغي ألا تنظر بعين واحدة في تحديد طبيعة المصلح والمفسد، فالمفسدون الكبار في ميادين السياسة والاقتصاد والمفسدون في ميدان الاجتماع والفكر الحي مشتركون في عملية التعويق والتبديد.

إن القوى التي تقع في دوائر التوظيف من طرف معسكر الفساد هي قوى هامشية موظفة تحت طائل الجهل أو الخشية من مشاريع الإصلاح، وسيكون تضييع الجهود في الصراع معها استنزاف للجهود، كما أن الدخول في عمليات تنافسية مع القوى الوطنية الإصلاحية التي تنطلق من منظور حضاري مقارب أو من منظور حضاري مباين، دون أن تتورط في صياغة مشروع اجتماعي ضال، هي قوى حليفة وصديقة للمشروع التغييري للحركة الإسلامية.

أصبح من الضروري لاستفاقة منهجية، فرز القواعد المنهجية التفصيلية في المنهج الحركي، من خلال دراسة عميقة في التاريخ وفلسفته وعلم الاجتماع وقوانينه
أصبح من الضروري لاستفاقة منهجية، فرز القواعد المنهجية التفصيلية في المنهج الحركي، من خلال دراسة عميقة في التاريخ وفلسفته وعلم الاجتماع وقوانينه
 

إن المجازفة السابقة بوضع خرائط تقييمية لمكونات النسيج الداخلي المتدافع هي بحق عملية غير نهائية وربما غير يقينية، ولكنها تهدف في مجملها لتبني مقاربة تعتبر أن الأساس الثابت في تمييز معسكر التعويق الحقيقي للإصلاح في مجتمعاتنا هو تيار الفساد السياسي والاجتماعي ممثلا في نخبة المدنيين المرتزقين من السياسة، والعساكر الساطين على الجيش والمجال العام، وشلل الترويج للفساد الأخلاقي والقيمي الملتحفين بالتقدمية..بمعنى أن معيار الفساد والإصلاح في هذه اللحظة التاريخية هو الذي يجب أن يعتمد كمقياس لفرز الفعاليات السياسية والاجتماعية في علاقتها بالمشروع التغييري للحركة الإسلامية، قربا وبعدا، مصالحة ومواجهة..

4ـ فرز القواعد المنهجية التفصيلية في المنهج الحركي، من خلال دراسة عميقة في التاريخ وفلسفته وعلم الاجتماع وقوانينه، فكما علمنا القرآن إن أمر التدافع قائم على سُنَن وضعها الله عز وجل في الاجتماع البشري : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيَّع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا).

وأمر استنباط واستقراء هذه السنن هو من نصيب العلماء والخبراء، والاهتداء إلى هذه المنارات والقواعد في مسيرة التغيير مؤذن بصلاح الأمر وفاعلية الحركة، والناظر إلى تجارب الأمة المعاصرة في الإصلاح يجد أن النقص لم يكن يوما في قلة الجموع الملتحمة بالفكرة ولا المستعدة للتضحية والبذل، كما أن الوقوع في ذات الأخطاء ووقوع ذات المصيبة مرارا يؤكد أن العطب الفكري هو علة العلل وأس المصائب.

إن موضوعات الفكر التغييري المقترح يجب أن تطال وسائل التغيير من كافة جوانبها، تربوية وإصلاحية، سياسية واجتماعية، كما ينبغي أن تطال كل الإشكالات وتنقد المناهج التغييرية الشائعة، وعليها أن تتعرض لمفهوم وحدود التمكين وعلاقته بالمنافس وموقفه من الخصم، وفوق ذلك عليها أن تؤسس للتخطيط الأشمل؛ لما هو أدق وأوضح من مجرد مسيرة التقدم الاجتماعي والسياسي التي تسير الحركات الإسلامية في أفقها الغائم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.