شعار قسم مدونات

أحكام معلّبة

Blogs-judge2
الحياةُ لعبة، وفي رواية أنّها عُلبة! نعم، عُلبة كبيرة بحجم المجرّة، وسط هذه العلبة معلّبات أصغر، يمكن تسميتها كواكب، مايهمنا منها هنا، عُلبتنا وحدها، أو الكُرة الأرضية التي نعيش على أديمها، داخل هذه العُلبة يعيش الكائن الذي يدعونه "الإنسان" وفي وقتنا أصبحت التسمية أقرب للمجاز منها للحقيقة، البشرُ سَادة الكوكب، عمّار الأرض، خلفاء الإله، وهم على ذلك، سببُ الخرابِ والفسادِ والهلاك "أَتجعَلُ فِيها مَن يُفسِد فِيهَا ويَسفِكُ الدّمَاءَ". 
         
تجري على البشريّ أحكام مَجرّته، حتى أنّ داخل كلّ إنسانٍ صندوق صغيرٌ يحوِي أحكامَه الخاصّة على كل شيء حولَه "أحكام معلّبة" هذه الأحكامُ جاهزةٌ كالكواكبِ في الملكوت، تجري لمستقرٍ لها، لا يحتاج الإنسانُ معهَا لتحليلٍ ولا تفكيرٍ ولا بحثٍ ولا إرهاقْ، جاهزٌ لتقييم الخطأ والصوابِ والحلالِ والحرامِ والطيّبِ والخبيثِ والغثّ من السمين، وتتدرج معلّبات الإنسان في حجمها، وتتدحرج في محيطه حتى يصل لنقطة من ليس معه فهو ضده، بطبيعة الحال!
              
فوائدُ الأحكامِ المعلبة! يخرجُ أحدنا مِن بيته وأحكامُه في جيبه، لا يُشترط أن يكون الخروجُ حقيقيًا طبعًا -يحدث أن يكون افتراضيًا- كما يَجول في الأسواق، يتجوّل بين الصفحات، يُلقي السلام على مَن يُحب ويلعن من لا يُحب، ولكن من أين جاء الحب! هو، أي الإنسان، لم يتعَب كثيرًا في البحث عن أسباب حبّه أو كرهِه لغيره، فقط أدخلَ عقله في جيبه، منذ اللحظة الأولى لأي لقاء أو حديث أو كلام يقرؤه، فأخرج حكمًا مطلقًا -كما يُخرج سيجارة من علبتها دون تمييز، فكلها سواء- حكمًا غير قابل للطعن، على الشيء الذي أمامَه، فصنّفه ووضعهُ في خانة الأحباب أو الأعداء، الخطأ أو الصواب، معي أو ضدي، واستراح!
         
لو تجرّدنا قليلا، وفكّرنا في أنفسنا كثيرًا، لوجدنا أنّ أغلب أحكامِنا على محيطنا كلّه عاطفية معلّبة لم نستعمل فيها أي جهد للتفكير
لو تجرّدنا قليلا، وفكّرنا في أنفسنا كثيرًا، لوجدنا أنّ أغلب أحكامِنا على محيطنا كلّه عاطفية معلّبة لم نستعمل فيها أي جهد للتفكير
 

هذه الأحكامُ الجاهزة جَعلت الإنسان في راحة ليست بالهيّنة حقًا، إنها تُريح عقله وأعصابهُ تمامًا من أعباءِ البحث عن حقيقة الأشياء، تُريحه من تحليل الأفكار ومراجعة المعلومات، ودون الحاجة لأي مقياس، ميزانُه مزاجه، ما يرُوقه صحيح والعكس بالعكس!

           
كلّنا نعيش داخل عُلبتنا الأرضية، وأغلبنا تعيش داخله معلّبات جاهزة للحكم على كلّ شيء، نستعملُ هذه الأحكام كأدوات احترازية لتحصين النفس من أي مشكلات يجلبها لنا التفكير، مَن قال إن التفكير أمرٌ سهل؟ إنه عملٌ مرهق، أحيانًا يصل بنا إلى مالا نشتهي، إلى حقيقة تقول إننا مخطئون، واهمون، وهذا ما لا نستطيع احتماله فـ "الحقيقة تؤلم من تعوّد على الأوهام" والأحكامُ الجاهزة سلاح فعّال في قتل الحقيقة والحفاظ على الوهم اللذيذ، واستعمال الأحكام الجاهزة أو "القوالب" لها آثار ودلائل نفسيّة بالطبع، فأنت لن تشعر بمسؤولية تجاه عقلك حين تضع شخصًا ما في قالب جاهز، لن تحتاج للتساؤل مع ذاتك، لن تكون مُضطرا لبحث حقيقة تصنيفك له، وهذا يعطي مساحة شاسعة للراحة، والحماقة أيضًا! 
       
خذ مثالا، تقرأ منشورا لأحدهم على الفيسبوك، لن تنتهي من القراءة حتى يصبح الكاتب في قالب جاهز وضَعه فيه عقلك تلقائيًا، ستحكم عليه بـ كويس، مش كويس، سيكون "جاهل" في رأيك، أو ربما إرهابيًا، خارجيا، عميلا، خائنا، لأنه اختلف في طرحه مع أفكارك، ربما أبسط من ذلك، قد يكون مجرّد اختلاف عاديّ في مسألةٍ عاديّة، من جهة أخرى قد يكون فذًا مُبهرا يستحق أن تشارك مقالته وتحفظ بعض سطورها، لأنه توافق قدرًا مع تفكيرك أو توجّهك، كل ذلك يحدث دون أن تستعمل أدوات التفكير المنطقي، بل قبل أن تنتهي من قراءة المنشور! وكثيرا ما يحدث، كثيرا جدا، ألا يكون شيء من ذلك أبدا، لكنّها عاطفتك وتسرّعك، هي التي حكمت على الشيء، يجب أن نصدّق ونفهم جيدا أنّ قبولك للشيء أو نفورك منه لن يغير من حقيقة الأشياء.
     
"الإنسان عدو ما يجهل" ولن تجد سلاحًا لقتل هذا العدو مثل "السـؤال" لكن الواقع يقول أننا نطلق قوالبنا وأحكامنا كيفما اتفق ونمضي هاربين من أي سؤال قد يفْاجئنا

أنا، حين استعمل أحكامي الجاهزة، أقوم تلقائيًا بتصنيف كلّ الناس وفقها، لن أكون بحاجة للتفكير والبحث والتحليل حتمًا، فلِمَ أزعج عقلي ما دمتُ قادرًا على راحته؟ لو تجرّدنا قليلا، وفكّرنا في أنفسنا كثيرًا، لوجدنا أنّ أغلب أحكامِنا على محيطنا كلّه "أشياء وأشخاص ومواقف" عاطفية معلّبة لم نستعمل فيها أي جهد للتفكير، لو تجرّدنا لتوقّفنا عن تصنيف الآخرين "وارتحنا وريّحنا" أفلا تتفكرون؟ أسبابُ هذه الحالة يطول شرحها، إنها تبتدئ من قبل ولادتك ولا تتنهي بطرق تنشأتك وتعليمك والمحيطُ الذي ينخر ثقافتك، والإنسان باستعماله لهذه الأحكام يعطّل عقله، والعقل هو الذي امتاز به الآدمي عن غيره من الكائنات واستحقّ سيادة الكوكب وخلافة الأرض، فإذا تعطلت العلّة- السبب، توقّف الإنسانُ عن كونه إنسانًا وأصبحت تسميتُه بها فعلا أقرب للمجاز!

     
نحن فُطِرنا هكذا، نهتمّ جدًا بالحكم على الأشياء، لا يمكن أن نطلبَ من النّاس أن لا يحكموا على فكرة أو أي شيء، فعلمياً، منظومة الخطأ والصواب هي التي تحكمُ كل أفعالنا وأحكامنا، ومنها نصنّف الآخرين ونحكم على الأشياء، ولكنّ الذي ندعو إليه هو استعمالُ العقل قبلَ الحكم، والتفكّر والبحث في السبب الذي يدعونا للحكم على الشيء، هل هو نِتاج تحليلٍ وتفكير أم عاطفةٌ مستترة وأحكام معلّبة؟
               
ليس للأحكام المعلبة (القوالب الجاهزة) أي فائدة إلا تعطيل الفكر والعقل، حتى الراحة التي تمنحنا إياها ضريبتها باهظة، هذه الطريقة تحرمنا من لذة السؤال والتحقيق والبحث، تجعلنا معتمدين في كل شيء على إجابات جاهزة، غير قادرين على البحث بأنفسنا، نتهرّب دون وعي من كل ما لا نفهمه، وقد قيل "الإنسان عدو ما يجهل" ولن تجد سلاحًا لقتل هذا العدو مثل "السـؤال" لكن الواقع يقول إننا نطلق قوالبنا وأحكامنا كيفما اتفق ونمضي هاربين من أي سؤال قد يفْاجئنا، هل حكمي على هذا الشيء صحيح؟ هل يمكن أن أكون مخطئا؟ كم خلفَ هذه التساؤلات من حقائق مغيّبة، وضمائر ميّتة، وقناعات ما كانت لتكون لو أننا سمحنا للأسئلة أن تُطرح! تذكروا في "الأسئلة المعلّقة" تكمُن أسـرار الحياة، وتنتشر مخاطر الجهل من تناول "الأجوبة المعلّبة"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.