شعار قسم مدونات

صراع الذكريات

Blogs-memory
إنَّها الحياة الدنيا التي تملؤنا ونملؤها، المليئة بالعبر والدروس والخيبات والآلام والكلمات، مليئة بالأشخاص الذين يتركون بصمات واضحة أو الذين يتركون بصمات مشوهة، حياةٌ مليئة بشتى سبل الحياة، وشتّى سبل الموت، موتٌ قد يكون بأيدينا وموت قسري خارج عن إرادتنا، حياتنا التي نعيش، كذلك يتراكم داخلها كمٌّ من الذكريات التعيسة والمبهجة، كمٌّ يزداد كل يوم بل ربما يتضاعف، كمٌّ نود لو أن بمقدورنا العبث به كما نشاء، لو أننا نستطيع اقتطاع الجزء التعيس ومضاعفة الجزء المبهج، ولكن هذا محال يا صديقي، لن تستطيع فعل شيء سوى محاولة تجنب هذه الذكريات قدر المستطاع، فهي تتراكم وتدفع بنفسها لتهدم الجدار الصلب بداخلك.
           
حتى ذكرياتنا الوردية وذكرياتنا المفضلة ربما تكون مصدراً يدفعك للبكاء وربما الاكتئاب أكثر من أي ذكرى أخرى سوداء، هل نظرت لطفل يتيم عندما تذكر أجمل ذكرياته مع والده؟ وجهه سيروي لك الحكاية كاملة، أصبح الآن ينقم الفرح ويكره السعادة، وربما قرر أن يصنع بنفسه ذكريات بائسة يحارب بها مصدر الألم ذاك، كانت أروع الذكريات وما زالت، فالزمن يحتفظ بها كما هي، عندما نعود به للوراء سنجدها، ولكن الزمن يسير دون توقف، فعندما ننظر إليها من بعيد سنراها شيئاً آخر قد يكون مشوهاً، الذكريات الجميلة يا صديقي لن تبقى كما عهدتها، فأنا أؤمن أن كل إنسان يُحارب بذكرياته.
                  
ابتعد عن العزلة قدر ما تستطيع فإنَّها الحياة لكل ذكرى مؤلمة، هي الاقتراب من أنفسنا  وذاكرتنا بشكل مؤلم، هي استعراض لصفحات الذاكرة حرفاً حرفاً وستجبرك على القراءة

لا عليك منها، لن تؤرقك ولن تسبب لك المتاعب كل يوم، إنما بنسبة أقل بكثير من ذكرياتنا الحزينة والمؤلمة والتعيسة، والتي تشكلت بفعل مواقف أو ظروف أو أشخاص، سترتبط بك للأبد، هي عنيدة جداً لا تعرف الاستسلام، خاصة عندما يكون السبب شخصاً، شخصٌ ظهر كشيء ما في الظلام، فأردت أن ترى معالمه بوضوح وتعلم ماهيته، فأنرت عليه فساءك ما رأيت، وقد تعلم في قلبك أن هذا الشخص سيكون وجعك الأكبر يوماً ما، وقد لا تحمد العاقبة، ولكنك تكابر وتكابر على أنَّه الطريق الصحيح حتى ترى النهاية بأم عينك فتدرك خطأك الذي فعلت، ولن يتبقى غير ذكريات قاسية تظل تأتيك كل يوم دونما استئذان، تفرض نفسها متى تشاء، فتفتك بقلبك وتفتح جرحه الذي لن يندمل، وهكذا ستبقى الذكريات شاهدةً على كل شيء، ستبقى الذكريات جلاداً يحترف حرفته، ستوجعنا الذكريات وتعود بنا إلى اللاعودة له، ستبقى الذكريات بادرة الشر وأسطورة الخير.

حاولت أن أعود بأفكاري إلى الزمن الجميل الذي نحاول أن نتجنه الآن، لأنال منه ذكرياتٍ تُسعدني، حيث الضحكات الحقيقية والهمم العالية، أفتش في ثناياها عن السعادة، عدتُ لأتفقد قصصنا القصيرة ورسوماتنا الطفولية ومقاعدنا الحجرية وأسرارنا الحمقاء وملابسنا المتسخة ومشاعرنا الصادقة وأحلامنا البريئة، أتفقد فراشي الدافئ الغير محشوٍ بدموع الذكريات بعد. لم أرَ غير حطامها البائس وثوانٍ مرت من أمامي، ولكن الشعور قد لامس قلبي بلطف، وارتسمت على شفتاي ابتسامة طفل صغير أدرك أُمَّه، لحظاتٌ قليلة ثم أجهشت بالبكاء، فلا تثق بذاكرتك يا صديقي؛ فإنها مليئة بالثقوب، وحقاً، الذكريات التي لا تموت تُميت.

                 
عندما تصنع الذكريات اصنعها بعناية، ستظل تصارعها حتى النهاية نعم، ولكنَّك ستصارع ما أحسنت صناعته، فأحسن ترويض ذاكرتك وكن بخيرٍ لأجلٍ نفسك
عندما تصنع الذكريات اصنعها بعناية، ستظل تصارعها حتى النهاية نعم، ولكنَّك ستصارع ما أحسنت صناعته، فأحسن ترويض ذاكرتك وكن بخيرٍ لأجلٍ نفسك
 
لا تعِد أحداً بإبقاء ذكريات جميلة معه، يمكنك أن تترك بينكم أشياء جميلة وأموراً عظيمة لن تنسى، ولكنك لن تستطيع ضمان رونقها وبقائها بنفس الشكل، هكذا تُصنع الذكريات يا صديقي وهكذا نخوض صراعاتنا معها، قد تكون هي كل شيء! لا يمكنك إتلافها ولكن يمكنك أحياناً إعادة تدويرها، فإن كان بإمكانك العفو عن شخص ما سبب لك آلاماً يوماً فلتفعل، ولتعد صناعة ذكرياتك القديمة معه وأرح قلبك قليلاً.
            
كذلك يمكنك أن تتحكم في صناعة ذكرياتك بنفسك، فابتعد عما يؤرقك وابتعد عن كل مصدر قد يعيد لك ذكرياتك المؤلمة، تعامل مع كل أمر بشيء من الإيمان، اعتن بقلبك وعقلك وحاسب نفسك وأدرك أُناسك قبل أن يدركوك، ابتعد عن العزلة قدر ما تستطيع فإنَّها الحياة لكل ذكرى مؤلمة، هي الاقتراب من أنفسنا بشكل أكبر، اقترابنا من ذاكرتنا بشكل مؤلم، هي استعراض لصفحات الذاكرة حرفاً حرفاً وستجبرك على القراءة، اشغل عُزلتك بالخير إن لازمتك، لا تذهب إلى النوم إلا وأنت منهك، لأن الذكريات المؤلمة ستنقض عليك في هذه الفترة، أشغل عقلك وعش في أمان بعيداً عن سطوة الذكريات.
          
يا صديقي، عندما تصنع الذكريات اصنعها بعناية، ستظل تصارعها حتى النهاية نعم، ولكنَّك ستصارع ما أحسنت صناعته، وعندما يفقد أحدهم ذاكرته لن يصبح مريضاً فلا تعُده، بل سيصبح أكثر صحةً فتمن مثله، أحسن ترويض ذاكرتك وكن بخيرٍ لأجلٍ نفسك، واستعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم دوماً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.