شعار قسم مدونات

محنة مَريّم

blogs خشوع

بعد قضاء ما يقرب من نصف عام في المعتقل السياسي بتهمة تجور على المنطق ومع كل النذر التي تشير إلى تسييس القضاء في بلد يحكمه العسكر بالنار لم تكن هناك فرصة للنجاة بكريمة. عليها الاختفاء بعيدا عن كل شيء وستبقى هكذا حتى يفتح الله لها طريقا للنجاة، ستحيا في عزلة شديدة وباسم جديد لثلاث سنوات.

هناك في منزل فسيح بلا أثاث في ساعات الليل الأخيرة قبل غبشة الفجر.. كانت ولادتها بينما الشاب والسيدة يتناقشان في اسم الصبية كانت الشمس تشرق في الخارج دون أن يفلح أي من أشعتها في اختراق النوافذ المحكمة الإغلاق والتي ستظل هكذا لأجل طويل. خطت الفتاة العشرينية متوسطة زوجها وأمها ثم جلست مصغية.

– هاه يا خالتو هتسميها إيه.

– أجابت بأول اسم طرق خاطرها: فاطْمة.
– فاطمة إيه بس يا خالتو أنا هسميها مرْيَم.
– انبهجت أساريرها وقد استيقظ حلمها القديم: تصدق وتآمن بالله كان نفسي أسميها مَرْيَم لولا والدها أصر على كريمة.
ضحكت الفتاة: مريم إذا! ع البركة.

ناسبني الاسم الجديد وألفته من فوري. ولّت أيام كريمة والديها وأقبلت أيام مرَيَم علّني ينالني من الاسم نصيب.

حجاب كثيف بيننا وبين الله وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. حجاب كثيف فلا نشعر معه بالصلة في أعماقنا بتلقائية غير متصنعة
حجاب كثيف بيننا وبين الله وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. حجاب كثيف فلا نشعر معه بالصلة في أعماقنا بتلقائية غير متصنعة
 

1- مريم عليها السلام ها هي ذا تعتزل الأنام بين جدران محرابها خلوة برب الأنام يطل محرابها على فضاء رحب عامر بعمار قلبها ابتهالا وتنزيها ومناجاة. سيدة لقلعة حصينة لا تعرف شمس وقمر، بل تشرق بقناديل صافية بصفاء وجدانها. محرابها الصغير حوى عالم نوراني شفاف ترى فيه انعكاس روحها الطاهرة. تورق الحياة من مِداد دموعها الخاشعة فتتجلى ثمار في غير أوانها. عمر قضته هكذا عليها السلام حتى إذا ما استوى الإيمان في قلبها كانت العذراء التي واجهت العالم بمعجزة الله وكلمته. ملكة بنات حواء فهي الصبية العذراء أم المسيح. وهي كلمة السر الخفية الشاهد المضيء على انحراف الطريق.

2- في خلوة كاشفة كنت أتقلب بين الرضا والجزع، الأنس والوحشة، الظل والحرور. ظننت أن عزلتي ستكون واحة عامرة بما في قلبي من إيمان فوجدتني في صحراء قاحلة لا يورق فيها غير الصبار. يوم بعد يوم وقد ضل من أدعوه إلا الله. لم تحدث الخوارق، لم أذق حلاوة قربه ومعرفته. وجدتني كطير منتوف الريش مفقوء العين، هنا في هذه العزلة بعيدا عن زينة الدنيا تكشّفت سوءتي، انفجر الخواء في قلبي الخرب. ماذا عساي أفعل هنا بلا أهل أو أصدقاء، بلا كتب بلا اتصال بلا قضية أحمل من أجلها شارة على صدري أو أجوب الشوارع وأقضي الأمسيات. ويحي.. أين زادي مما مضى؟ هل يفيد الندم؟

بين يديّ هنا أعظم كتاب فيه من السور ما نزل به الروح الأمين ليسري عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فلم لا تؤتي أُكُلها معي؟ أليس مخجلا أن تفعل بي رواية لأديبتي المفضلة ما تفعل فلا يأتي الصباح إلا وقد أنهيتها، متلذذة ليال بعدها باقتباس منها. "سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا" يمضي صحابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم ليلته قائما يتلو مكررا ومكررا تلذذا بالآية الكريمة. "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ". أعيد قراءة الآيات فيزيد اضطراب قلبي تجاوبا مع الآية الكريمة، تجاوب لحظي لا يترك أثره الدائم المزلزل. في أغوار التاريخ أول عهد البشر بالقرآن يأتي من ملأت الجاهلية جوارحه وهيجت نفسه بالحرب دون معتقده، يمر أمام آية يسمعها لأول مرة فيخر قلبه متصدعا لما عرف من الحق فيترك ما كان قبل لحظة واحدة معتقد له ولآبائه من قبل، يتركه بأريحية واطمئنان ويشرق نور الله في قلبه.

ما الذي وجده في القرآن وفقدته أنا ابنة الأزهر ل١٢عاما فلا أثر. لا أثر لهذا في ذواتنا وأنفسنا وأفعالنا التلقائية دون مجاهدة أو تصنع. أين الاطمئنان بالله ربا، اطمئنان مترسخ لا يتأثر بتقلبات الأيام. أين اليقين الذي وجده واستعصى علىّ؟ هل ما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم -ليس الذي بين أيدينا اليوم؟ سمة شيء تغير حال بيننا وبين معجزة القرآن، حجاب كثيف بيننا وبين الله وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. حجاب كثيف فلا نشعر معه بالصلة في أعماقنا بتلقائية غير متصنعة ولا متشدقين بكلام حسين. أما الزبد فيذهب جفاء، ٢٠عاما غارقة في زبد كلام حسين عن الله غايتي ثمّ وقد انقطعت اليوم عن كل ما سواه لم أذق حلاوة الوِصال كما ذاقه من أقول أني متأسية بهم فكانت خلوتهم باب ممتد للسماء وكانت خلوتي جرف هار إنهار بي لوحشة وقلق واضطراب نفسي.

سلاحي المطلوب هو درع يحميني من الدنيا فلا تصرعني بمطالبها، ولا تشقيني الأحداث الجِسام التي لا قوة لي بها وتنسيني محنة مريم التي علمتني أن الساعة ساعة إعداد، وبناء للعقيدة
سلاحي المطلوب هو درع يحميني من الدنيا فلا تصرعني بمطالبها، ولا تشقيني الأحداث الجِسام التي لا قوة لي بها وتنسيني محنة مريم التي علمتني أن الساعة ساعة إعداد، وبناء للعقيدة
 

فأين الله الذي عرفته؟ نعم عزيزي قارئ كلماتي تقول أننا نعرف الله، بالطبع نعرفه، لكن أحدثك عني دون التطرق إليك، فربما أنت وصلت إلى النهاية سالما حتى صرت تعبد الله عن معرفة بقدره وحدوده كأنك تراه، ولا تزلزلك مثلي النوازل ولا يقف بصرك عند القارعات، لكني لم أصل لهذا، سلكت العديد من الطرق لكنها خاطئة، مورس علينا أيضا طرق بالية؛ طرق بشرية مسكينة في انتظار نتيجة لزرعنا الذي يغيظ الكفار، نشأنا وفي داخلنا أحلام وردية بتحرير الأقصى، حملنا هم المستضعفين منذ نشأنا وزُيّن لنا مع بداية المراهقة أننا نستطيع تغيير الموازين بعقيدة مبتورة أن الله وليينا وأن القلة بالله كثرة. اندفعنا بعود أخضر غض لنُصلح ونبني دون أن نجلس ساعة لنزرع الإيمان ونتعهده عمرا حتى يورِق شجرة راسخة في أعماق العقل والقلب فنكون حقا أولياء الله.

فأين الله منّا؟ وجدنا أنفسنا حتى سن الشباب ما زلنا نبحث عن إجابة سؤال كيف نجد الخشوع في الصلاة؟ هل أنت مثلي تعلمت الياء قبل الألف؟ هل قرأت مثلي مذ تشكل وعيّك العديد من الكتب بنهم وشوق ثم حينما يأتي ذكر وِردك القرآني -إن أنت أنهيته بدون تثاقل وشوق إلى بلوغ نهايته- تجد في نفسك فرحا واطمئنانا أنك اليوم قرأت حزبك بعقل صاف وقلب حاضر؟ هذا إن فعلت أصلا "يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ". أنا سأعترف بأني كذلك.

اليوم وبعد ثلاث سنوات أقف أمام نافذة زجاجية بطول الحائط وأمامي مشهد لأفق المدينة الجديدة، إسطنبول الساحرة، سأشهد بعد قليل أفول الشمس ومعه مغيب مريم، لست بحاجة الآن إلى أمنيات للعام الجديد؛ فقد تعلمت أن الأماني لا تجدي. وإنما سلاحي المطلوب الساعة هو درع يحميني من الدنيا فلا تصرعني بمطالبها، ولا تشقيني الأحداث الجِسام التي لا قوة لي بها وتنسيني محنة مريم التي علمتني أن الساعة ساعة إعداد، وبناء للعقيدة التي لم تبنى فيخرج زرعا يغيظ الكفار. هجرة وبداية جديدة تنتهي معها أعوام التيه، قاسيات كانت وكذا الكي بعد الجرح، خوف يقنعني بالحياة وبالقتال خوف أن أرحل عن هذه الحياة وقد حُرمت لذة عبادته حبا وشوقا ووجدا وابتهالا وتنزيها وتحررا بعبودية لرب السماوات والأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.