شعار قسم مدونات

شهداء الجوع.. وحصار الغوطة الشرقية

Blogs- starving
من أرض الفسطاط العظيمة يتلوى أحدهم جوعاً، من الغوطة الكريمة يئن آخرٌ ألماً، من تلك البقعة المباركة يصرخ صغيرهم (كذبتم، الكل يموت من الجوع)، المؤسف أنه صدق، ففي غوطتنا المكروبة بل الأصح المخذولة منا كإخوة لها بالإسلام والمعتقد والمطالب يموتون هناك جوعاً وكمداً وتعباً وخذلاناً، تترنح غوطتنا وتحتضر أمام مرأى الجميع من مجتمعات تدعي الإسلام إلى أخرى تدعي الإنسانية، يغضون أبصارهم عن الغوطة المكلومة وكأنها لم تكن موجودة بهذا العالم التعس، ليسطّروا بتخاذلهم ذاك جرحاً غائراً في جبين الإنسانية جمعاء، وما ضر غوطتنا ذلك، بل سكينُ بنو جلدتنا أشد وطأة على النفس وأكثر ألماً وأفدح مصاباً.
           
يا لعارنا وَخُزينا أمام أبناء الغوطة وأهلها، وفي ضوء كل هذا، يرتقب المتسلقون، المرجفون، المخذلون في أوكارهم بصمتٍ مخزٍ، ينتظرون سقوطها، حتى ترتاح ضمائرهم الميتة يتمنون أن تكون غوطتنا جاثية كنفوسهم التي ألفت العبودية فإذ ما أصاب (الغوطة) مكروه، خرجوا ينتحبون ويبكون ويلطمون، أشباه الرجال ولا رجال، وأسفاه، عبساً غوطتنا تنادي اليوم وامعتصماه لقد مات المعتصم من النفوس، ودفن في إحدى مقابرها المشرفة، جُعلت أشلاؤه تحت أنقاض مبانيها العظيمة وغُيب صوته حينما علت قرقرة بُطُون أطفالها الخاوية، من لغوطتنا اليوم؟ من لأهلها وأطفالها وشيبها وشبابها؟
        

الفعل أبلغ منطقاً من كلماتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، العمل أفضل حالاً من شعاراتٍ جوفاء ووقفات احتجاجية، لكِ الله غوطتي وثلة قليلة من المخلصين الذين ما زالوا على العهد، لن يدخروا جُهداً في إنقاذكِ، ألم يكن مصابكِ مصاب النبي وصحبه رضوان الله عليهم أجمعين في شعب أبي طالب، فرجٌ قريب والله المستعان، ذبُلت الأجساد وجفت الأكباد وقرقرت البطون وظمئت الأجواف، شيوخ يئنون وأطفال يصرخون ومرضى يتوجعون ورجال حائرون، وحبيب الله عليه أفضل الصلاة والسلام ينظر إلى حالهم ويتفقدهم ويعينهم في قضاء حوائجهم في حصارهم الذي فرضه عليهم استكبار قوم على الحق ورفضهم الإقرار به رغم وضوح بطلان ما عاكسه لكنها النفس البشرية التي فطرت على التعنت والعناد حتى لو كان الضحية أطفالاً وشيوخاً ونساء.

            
تتلظى أفئدة الأمهات برؤية أبناء أرحامهن وأجزاء أرواحهم يألمون ويتألمون بسياط جوع لا يرحم، وهم عاجزون عن فعل شيء
تتلظى أفئدة الأمهات برؤية أبناء أرحامهن وأجزاء أرواحهم يألمون ويتألمون بسياط جوع لا يرحم، وهم عاجزون عن فعل شيء
 

شُلَّت يد من كتب الصحيفة التي تقتضي بالتجويع والحرمان بفعل دعاء المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلتُشل يد كل من ساهم بتجويع أطفال غوطتنا وأهلها، فلتُشل أيدي مجتمعات دولية تتشدق بالديموقراطية وتتغنى بالحريات الشعبية، وهي غارقة حتى رأسها بدماء أطفال شامنا ونساءها، فلتُشل أيدي كلُّ من لجأ إلى أضعف الإيمان وكان بمستطاعه أن يفعل أكثر، فلتُشل أيدي أدعياء الدين وتجار الدماء، فلتُشل أيادي كل من امتد لأهلنا بسوء ولتبتر أيدينا إن وقفنا صامتين، لا تُحرِّكنا أدمع الجائعين ولا صيحات المقهورين ولا نداء البائسين.

                
كم من "سحرٍ" في غوطتنا ينهال التراب على جسدها النحيل ويمزق الجوع أطرافها التي لم تكتمل بعد، ويشق الألم في جسمها دروباً لا ترحم، سحر مثال الطفولة المذبوحة بأيدي الظالمين المجرمين، سحر التي فارقت الدنيا قبل أن تعرفها لم يكن ذنبها سوى أنها ولدت بخير المدائن، وكم من أم سحر -عظم الله أجرها وألهمها الصبر والسلوان- تتلظى أفئدتهن برؤية أبناء أرحامهن وأجزاء أرواحهم يألمون ويتألمون بسياط جوع لا يرحم وهم عاجزون عن فعل شيء، أي عذاب أشق على الأم من موت ولدها قرة عينها أمامها وهي عاجزة ضعيفة لا تملك سوى صرخات مكتومة وآهات حبيسة ملؤها التوسل والاستغاثة لرب الأرباب وصاحب الألباب.
       
الجوع يفعل الأفاعيل، ألم يشنق نفسه شاب لم يتجاوز السابعة عشر من عمره بفعل الجوع والضعف والخذلان، يخيل إلي أن ذلك الحبل الذي التف على رقبته لم يكن إلا صمتنا وسكوتنا عن الحق ونسيان أهل لنا في الجنوب يقاسون ما يقاسون، يخيل إلي أن آخر أنفاسه لعنة ستحط علينا إلى يوم الدين، يخيل إلي العجز الذي لحق به، أي شعور إنساني أقسى وأمر من العجز، يرى أهله ورفاق دربه وأصدقاءه والجوع ينهش منهم، ويأكل من أرواحهم، ويقتات على أجسادهم، العجز هو الذي شنقه كذب من قال أنه انتحر بل نُحر على أيدي الطاغوت وجنده وزبانيته.
              
الجوع كافر، والجائعون مسلمون، مؤمنون، موحدون، لكنه جندي قد سُلط عليهم من الحاقدين، الظالمين، لن يتركوا شيئاً من أدواتهم التي امتلأت بالدماء إلا وجعلوه في جسد ثورتنا عسى أن تركع لهم، عبثاً يحاولون لا فناء لثورتنا التي أُثخنت بالجراح من كل حدب وصوب، من كل عدو وصديق، لكنها تنمو بِنَا وتزداد رسوخاً في نفوسنا، كنبتة أصلها ثابت وفرعها في السماء وما عذاباتنا وشقاء أيامنا وفداحة مصابنا إلا سُقيا لثورتنا التي تناطح السحاب، صبراً غوطتي، فالمصائب والنوائب مصانع لصياغة المجد وجيل التمكين لن يخرج إلا من رحم الفواجع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.