شعار قسم مدونات

الشعر العربي.. بين الحداثة المقدسة والحداثة المدنسة

blogs - writing ink

يتراوح الإنسان العاقل بين دافعين، الأول يدفعه بشدة إلى القديم المألوف، والثاني يدفعه بشغف إلى التطلع لاكتشاف المجهول، وشق الطريق نحو التأمل والبحث عن الغد المأمول، وهو بذلك دوما في صراع بين الحفاظ على عاداته ومألوفاته تحت اسم "التراث" أو "الأصالة"؛ وبين دوافع التطور والاكتشاف فيما يطلق عليها مسمى "الحداثة" أو "المعاصرة".
   
والملاحظ أنه يكاد يكون لكل قديم حديث؛ ومنه تبلورت فكرة و نظرية الحداثة مفهوما ومصطلحا. فالحداثة كمفهوم عام هي المشاركة والمساهمة في التحول الكبير الذي تشهده الإنسانية كما عَرَّفَهَا أهل الاختصاص. وكون مفهوم الشعر وماهيته لا تزال محل نقاش بالمحاولة الدائمة في كسر طابوهات التقليد، والذوبان في كيان التجديد الذي تَمَثَّلَ في حداثة شعرية سائلة جمعت بين الجودة والرداءة !
   
الحداثة في الأدب العربي ما هي إلا فرع من فروع الحداثة الفكرية؛ الفكر الذي استمد أبجدياته الحداثية من الفكر الغربي بعد الثورة الفرنسية من خلال تمرد رواد النهضة الأوروبية آنذاك على كل المفاهيم والقيم الدينية باعتبارها قيودا جاثمة على صدر الفكر والعقل. في جلسة تمعن يمكن القول بأن الحداثة الأدبية باختصار تكمن في "تذوق الإنسان للكلمة وتخلصه من الإديولوجية المقيتة، وإخلاصه للجمال المحسوس والملموس.. وعمق نظرته للأشياء من الجزء إلى الكل، ومن الكل إلى الجزء وكلاهما في آن واحد". وهذا المفهوم يجعلنا نقول بأن القصيدة العربية الحديثة "بقدر ماهي انعكاس لشخصياتنا وما نريد أن نقوله وما لا ينبغي أن نقوله.. تزيدنا غموضا على غموض تجعلنا مزاجيين.. نرفض السطحية ندمن التعمق.. لا مفر منها إلا إليها."
 
ولكن ما يروج له بأن أفضل قصيدة حداثية لا تتضمن أية فكرة ولا تحمل أي معنى، بشرط وحيد هو أن تثير إيحاءات متناقضة غير متناغمة ولا منسجمة لدى القراء.. يتناقض مع الغرض من الشعر ومفهوم الحداثة في حد ذاتها! ما نراه اليوم من قطيعة بين الشاعر والمتلقي لخير دليل على فقدان البوصلة من طرف الشعراء الحداثيين ابتداء من رواد الشعر العربي الحداثي وتأثرهم المفرط بالأدب الغربي وتفاخرهم بذلك.

 

الارتقاء بالجمهور لا يعني الإسراف في الغموض اللاوظيفي، واستنزاف القرائح دون مغزى، وخلق استعارات ومجازات لا تدل إلا على المجاز في حد ذاته!، والاعتماد الكلي على الرمزية المفرطة
الارتقاء بالجمهور لا يعني الإسراف في الغموض اللاوظيفي، واستنزاف القرائح دون مغزى، وخلق استعارات ومجازات لا تدل إلا على المجاز في حد ذاته!، والاعتماد الكلي على الرمزية المفرطة
 

لقد تم العودة في الآونة الأخيرة لطرح إشكالية التلقي لدى القارئ العربي؛ حيث عاتب أحدهم قديما الشاعر أبو تمام قائلا: (لماذا تقول ما لا يفهم؟) فأجابه: (ولماذا لا تفهم أنت ما يقال؟!)، فالارتقاء بالجمهور إلى ماهية النصوص الأدبية خاصة الشعرية منها وتطوير ذائقته ليس بالسهولة المعروفة؛ بل يكون بإحداث ثورة فكرية وبناء وعي سليم من خلال خلق فضاءات فكرية عديدة ومتجددة، وعدم تهميش دور المنظومة التربوية التعليمية…إلخ.

 
ولكن هذا لا يعني الإسراف في الغموض اللاوظيفي، واستنزاف القرائح دون مغزى، وخلق استعارات ومجازات لا تدل إلا على المجاز في حد ذاته!، والاعتماد الكلي على الرمزية المفرطة بحيث تجعل النص الشعري عبارة عن طلاسم لا أكثر ولا أقل!
 
لنعود قليلا إلى الوراء.. بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان وعميد الرمزية بعد إدغار والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل.. فقد نادى بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق؛ وهذا ما كان يتناسب مع طبيعة القيم السائدة في الفكر الغربي، ومخرجات الثورة الفكرية في ذلك الوقت بعيدا عن قداسة الكنيسة. وكيف نفسر كلام إدغار حين قال على الأدب أن يكون "كاشفا للجمال" هنا نتفق معه ونتبنى ذلك، ولكن أن يقول "وأن يكون لا علاقة له بالحق والأخلاق"!؟ هنا نطرح علامة الاستفهام والتعجب؛ التفسير الوحيد لهذا تجده في تتبع سيرته فقد كان رجلا مفلسا سلوكيا واجتماعيا.. وانعكس ذلك على فكره وأدبه بشهادة المؤرخين.

 
ما يمليه الضمير العربي المسلم  والحس الثقافي هو دعم الحداثة فيما ترمي إليه من تغيير وتجديد، وإعادة صياغة الشكل، والسفر في عوالم هادفة؛ والاستمتاع بخيالها الإبداعي وجمالها الآخذ دون التورط في الفوضى الفكرية واللغوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع في انتظار حداثة فكرية عربية خالصة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.