شعار قسم مدونات

العمامات في الأزمات

Blogs-شيخ
لطالما كان العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ منارةً تهدي الحيارى والتّائهين إلى الطريقِ القويم، ملتزمين بذلك بميثاقِ الله الذي أخذه منهم، أن يبيّنوا للناس ما علموا ولا يكتمونه. فكانوا يصدعون بالحق لا يثنيهم عن ذلك إغراءٌ بمكانةٍ، أو وعدٌ بمنصبٍ، أو غضبةُ سلطانٍ وبطشته. وأمّا من شذُّوا منهم عن مَهمَّتهم ونبذوا ميثاقَ الله وراء ظهورِهم، إمّا لرغبةٍ في رضى سلطانٍ، أو رهبةٍ منه، متناسين أنّ الله لما نهى الناس بقوله "ولا تطغوا" أعقب ذلك بنهيٍ آخر "وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ"، فهؤلاء هم العلماءُ المدجَّنون الذين يفسِّرون نصوصَ الشّريعةِ للعوامِ على مقاساتٍ خاضعةٍ لهوى السلطانِ ورغائبه، ويُلقون خطبهم وفتاواهم من كاتلوج أُعِدَّ بعنايةٍ فائقة. 
              
وصفحاتُ التاريخ محبّرةٌ بالعلماءِ الصدّاعين بالحقّ في وجهِ جبروتِ السُّلطةِ والسلطان، فقد اصطدم العزُّ بن عبد السلام مع سلاطين زمانه غير مرة، وقد خطبَ وأفتى مرةً بعدم جواز مساندة الصليبيّن على المسلمين، فكانت نتيجة ذلك أن مُنعَ الشّيخُ من الخطابةِ وعُزل عن منصبه.
          
كما كَتب له التّاريخ أيضاً أنّه عارض سّلطانَ مصر الذي ولى مماليكه على مختلف الإمارات، فأصدر فتواه الأشهرَ بعدم جواز ولاية العبيد على الأحرار، فغضب عليه الأمراء المتحكمون بالمناصب الرفيعة، وحاولوا إقناعه بالعدول عن فتواه وهددوه، غير أن إصراره على الحق كان أقوى. ولمّا رفض السلطانُ الفتوى عزل الشيخُ نفسه من منصبه حتى لا يُظنَّ أن دوره يقتصر على تلميع صورة السلطان. فالتحق بركبه المصريون شعباً وعلماء، يُغضبُهم ما أغضبَه، فأُجبِر السلطان بذلك على استرضاء العزِّ والنزول عند فتواه، فبِيعَ السلاطين ثم اعتِقوا وأعيد ثمنهم إلى بيت مال المسلمين.
               
وكذلك دوَّن التاريخُ في صحائفه المشرقة موقف إمام دار الهجرة مالك بن أنس من قبل، فإنّه لمّا لم يرضخ لرغبةِ السلطان جُرِّد من ملبسه، وعذب حتى خلعت إحدى يديه، فلم يُنقص ذلك من شأنه ولم يثنه عن موقفه. وقُل مثل ذلك في ابن حنبل وابن جبير وغيرهم.
    

لمّا قال حاكمٌ عسكريٌ بأنّ جماعات الإسلام السياسي
لمّا قال حاكمٌ عسكريٌ بأنّ جماعات الإسلام السياسي "إرهابية"، انتبذ جمعٌ من علماء السلطة يؤيدون قولته ويطبخون له ما يلزم من فتاوى تحل له أن يستأصل الإرهاب
 

أمّا في زمننا هذا -برغم قلةِ الصادعين فيه بالحق- فلازال فيه من العلماء من ظلّ متمسكاً بما أخذ الله عليه من ميثاقٍ عن مداهنة السلطان، فهم كنجوم السماء في الليلة المعتمة. ولا يَمنع من تسمية بعض أولئك العلماء إلا ما أُثر عن ابن مسعود "إنّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنه". وأمّا المداهنون فهم المتكفِّلون بتبرير أقوال السلطان وفعاله، وحشْدِ الناس على ولائه، وتأويل سقطاته وزلّاته.
    
فلمّا قال السلطان الحاكم بكتاب الله وسنة رسوله بأن قيادة المرأة للسيارة حرام، قالوا حرامٌ، وطفقوا يتفنّّنون في استخراج الدليلِ من تحت أظافر النصوص. ولمّا استيقظ ذاتُ السلطان مرةً على مزاجٍ صحوٍ وقال بحلِّ قيادة المرأة للسيارة، طفق ذات "العلماء" يؤيدون القرار، ولا يعدمون لذلك دليلاً من كتابٍ أو سنّةٍ أو عرفٍ أو مصلحةٍ مرسلة.
              
ولمّا قال حاكمٌ عسكريٌ بأنّ كبرى جماعات الإسلام السياسي "إرهابية"، انتبذ جمعٌ من علماء السلطة يؤيدون قولته ويطبخون له ما يلزم من فتاوى تحل له أن يستأصل الإرهاب. فقائلٌ هم من نسل الخوارج المارقين، وقائلٌ هم باغوا الفتنة والشقاق بين المسلمين، وقائلٌ هم مجنّدو الغرب اللعين. فلا تكاد تمر أيام قبل أن يبطش الحاكم بأفراد تلك الجماعة وأقربائهم ومن يشببهم، فسفك من دمهم وكدّس السُّجون بهم. ولمّا قال الحاكم الحداثيُّ المتحرِّر بأنّه من حق المرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، ومن حقها أن تُساوى في الميراث مع الرجل، هبّ "علماء" يهلّلون للقرار ويثنون على كونه موافقاً لمبادئ الإسلام العادلة، وإن خالف ذلك ظاهر ما في أيديهم من النّصوص وباطنها.
      
ولما كادت عصبةُ حكامٍ لدولةٍ صغيرةٍ مجاورة، استجلب علماءُ أولئك الحكام نصوصاً ولَوَوا أعناقها حتى انكسرت ليُدلّلوا بها على مِروقِ تلك الدولة ووجوب حَصْر أهلها حتى يفيئوا إلى أمر الله. لقد ذمَّ اللهُ في كتابه أحبار اليهود لعدم عملهم بمضمون كتبهم رغم علمهم بها، فقال عنهم "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا". وقد أحسن صاحبُ الزُّبد -رحمه الله- إذ قال  "وعالمٌ بعلمه لم يعملنْ، معذبٌ من قبل عبّاد". الوثن

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.